{وَفِي خَلْقِكُمْ} هذا الخلق العجيب الذي تمتزج فيه المادة بالروح ،ويحركه العقل والعاطفة ،وتتناسق أجزاؤه وتتعدد خصائصه حتى كأنّ كلّ عضوٍ فيه عالم فريد في علاقته بالأجهزة الأخرى ووظائفها ،وهو يبدع الفكر غير المادي من عناصر مادية ،ويحرّك الحياة من حوله ،ويجعل هذا المخلوق الصغير يقود الكون الكبير بطاقته العظيمة التي أودعها الله فيه .
{وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ} من هذه المخلوقات العجيبة التي تدب على الأرض ،وتتنوع في خصائصها الداخلية والخارجية ،وفي أدوارها وأوضاعها ومواقع عيشها ،ففيها ما يعيش في أعماق الأرض ،وعلى سطوحها ،وما يطير في الفضاء ،على اختلاف قوتها وضعفها ،الأمر الذي يجعل بعضها طعاماً لبعضها الآخر ،وقسماً منها مسخّرا لقسمٍ آخر ،من دون أن يطغى نوعٌ على نوعٍ طغياناً مطلقاً أو يبيد نوع نوعاً آخر إبادةً شاملةً ،لوجود نوع من التوازن الدقيق الذي يضبط حركة القوّة والضعف ،ما يجعل الحياة تستمر لتتكامل هذه المخلوقات الحيّة في إغناء الحياة بما تحتاج إليه في كل أوضاعها الجزئية والكلية ..وهكذا ينفتح ،من خلال هذه الدوابّ المبثوثة في الأرض والسماء ،أفقٌ واسعٌ من المعرفة اليقينية لمن يحملون مسؤولية الفكر ويريدون الأخذ بأسباب اليقين للتخلص من حالة الغفلة التي تمنع الإنسان من أن يفتح عقله على مفردات المعرفة ،والابتعاد عن حالة الشك التي تجعله يعيش الاهتزاز الحائر أمام الاحتمالات القلقة .فيجدون في وجودهم ،ووجود هذه المخلوقات الحية التي تعيش في عالمهم ،عمق التدبير ،وروعة الجمال ،وسرّ الحكمة ودقّة الصنعة ،وامتداد القدرة ،فإذا هي{آياتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}َ فيعيشون وضوح الرؤية ،وانفتاح القلب وصفاء الروح ،جراء اليقين بالله ،والبعد عن كل عوامل الشك .