{وَاخْتلافِ اللّيْلِ وَالنَّهَارِ} المتأتي عن دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس مرّةً في كل يوم ،فإذا بالليل والنهار ظاهرتان كونيتان تنظمان للإنسان حياته ،كما تحتفظان للحياة وللأحياء بالعناصر الضرورية لامتدادها في رحلة الوجود ..
{وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَّن رّزْقٍ} وهو الماء الذي ينزل من السماء{فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} عندما يجعلها صالحةً لاحتضان البذور في عملية النموّ والانفتاح ،وربما استوحى البعض من هذا الرزق ،شموله للأشعة التي تنزل من السماء ،فهي ليست أقل أثراً في إحياء الأرض من الماء ،ذلك أن الماء ينشأ عنها بإذن الله ،فحرارة الشمس هي التي تبخّر الماء من البحار فتتكاثف وتنزل أمطاراً وتجري عيوناً وأنهاراً ،وقد نلاحظ على ذلك أن الأشعة من العناصر التي تشارك في أسباب هذا الرزق وتكمل تأثيره ،ولكنها ليست رزقاً بالمعنى المادّي الذي يفهم عرفاً من كلمة رزق .
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} التي تتنوّع وتختلف في خصائصها ومواقعها وحرارتها وبرودتها ،وطبيعتها من حيث الشدة والخفة ،وهي تتحرك وفقاً للنظام الكوني الذي يربطها بالكثير من الأوضاع المتصلة بحركة الحياة في الأرض ،{آياتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}َ لأن العقل الذي يدرس كل هذه الظواهر ويدقّق في القوانين التي تحكمها ،وفي الأسرار التي تكمن في داخلها ،لا بد من أن يستوحي منها ،كيف يفتح وعيه على الله الذي هو سرّ كل شيء فيها ،فلا معنى لوجودها بعيداً عنه .
ما معنى الاختلاف في التعبير عن الآيات ؟
وقد تناول المفسرون هذا التنوع في التعبير عن الآيات تبعاً لتنوعها ،فقد اعتبر خلق السماوات والأرض آيات للمؤمنين .أمّا خلق الإنسان وسائر الحيوان فهو آيات لقوم يوقنون ،ثم جعل آية اختلاف الليل والنهار والأمطار وتصريف الرياح ،لقوم يعقلون ،فما هو السرّ في هذا الاختلاف ،ولا سيّما إذا عرفنا أن الإيمان حالة يقين ،يحصّلها العقل الذي يتحرك فيه الفكر ،ويحتضنه الوجدان ..فهل هو من قبيل التنويع البلاغي للمفهوم الواحد ؟أم هو الاستغراق في وضوح اليقين كما هو الأسلوب القرآني في تنويع التعبير للمعنى الواحد .وهو خاضعٌ لاختلاف بعض خصائص المعاني في المواقع المتعددة والمتنوعة .
يقول صاحب الميزان في توجيه ذلك: «إن آية السماوات والأرض تدل بدلالةٍ بسيطةٍ ساذجة على أنها لم توجد نفسها بنفسها ولا عن اتفاقٍ وصدفةٍ ،بل لها موجد أوجدها مع ما لها من الآثار والأفعال التي يتحصّل منها النظام المشهود ،فخالقها خالق الجميع وربّ الكل ،والإنسان يدرك ذلك بفهمه البسيط الساذج ،والمؤمنون بجميع طبقاتهم يفهمون ذلك وينتفعون به .
وأما آية خلق الإنسان وسائر الدواب التي لها حياة وشعور ،فإنها من حيث أرواحها ونفوسها الحية الشاعرة من عالمٍ وراء عالم المادة ،وهو المسمّى بالملكوت ،وقد خصّ القرآن كمال إدراكه ومشاهدته بأهل اليقين كما قال:{وَكَذَلِكَ نُرِيَ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [ الأنعام:75] .
وأمّا آية اختلاف الليل والنهار والأمطار المحيية للأرض وتصريف الرياح ،فإنها لتنوّع أقسامها وتعدّد جهاتها وارتباطها بالأرض والأرضيات وكثرة فوائدها ،تحتاج إلى تعقّلٍ فكريٍّ تفصيليٍّ عميقٍ ولا تُنال بالفهم البسيط الساذج ،ولذلك خُصت بقوم يعقلون »
وهناك وجوه أُخر في تفسير هذا التنوع ،ولكننا نرجح ما ذكرناه أوّلاً من رجوع القضية إلى التنويع في التعبير عن الفكرة الواحدة مراعاة للأسلوب البلاغي الجمالي في الشكل التعبيري .
أمّا الوجه الذي ذكره صاحب الميزان فقد نلاحظ عليه أن من الممكن إرجاع كل آية لكل واحدةٍ من هذه النعوت ..فالآية التي استشهد بها على مسألة اليقين ،قد تحدثت عن ملكوت السماوات والأرض ،واستخدم في التعبير عنها كلمة الإيمان في الآيات التي نتحدث عنها ،كما يمكن استخدام كلمة العقل فيها باعتباره أساس الإيمان المبني على التأمل والمحاكمة العقلية ،والله العالم .