وهذا حديث عن المنافقين ،وهم الفئة المستورة من الكافرين ،لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان ،في سبيل التأثير السلبي على حركة الإسلام في الدعوة والحياة ،عبر استعمال قدراتهم الذاتية في إرباك الواقع الإسلامي من الداخل ،أو عبر تحالفاتهم العدوانية مع المشركين واليهود الذين يشكِّلون المجتمع المعادي لعقيدة الإسلام ومجتمعه ،الأمر الذي جعل منهم مشكلةً صعبةً في عهد النبوّة المدنيّ الذي كان يعمل النبي فيه على تمتين قواعد المجتمع على مستوى المنهج والعلاقات ،وعلى تركيز الثبات في مواجهة التحديات ،وفي تحريك المواقع ،فقد كان المنافقون يعملون على إيجاد عوامل الاهتزاز الروحي الذي يُفقِد المسلمين ثقتهم بأنفسهم ،ويخلق لديهم التوتُّر الشعوري الذي يؤدّي بهم إلى الارتباك والبعد عن التوازن والتركيز الفكري والعملي .وكانواأي المنافقينيواجهون المواقف بطريقةٍ تختزن في داخلها الحقد والتآمر والعدوان ،وتُظهر المحبة والغيرة والصداقة ،فيجتذبون بعض البسطاء إليهم ،ويثيرون الشبهات في حركة الرسالة والرسول ،ويستغلّون مواقعهم العائلية والاجتماعية للوصول إلى أهدافهم المشبوهة .
وقد خاض الإسلام معركته مع النفاق ،فكرياً وعملياً ،كما خاضها مع الكفر ،ولذلك جاءت الآيات القرآنية المتكررة التي تحدّثت عن ملامحهم وأوضاعهم وخططهم ،لتصنع وعياً إسلامياً داخلياً يطوّقهم ويحاصرهم ويفسد مخططاتهم ويمنعهم من الوصول إلى أهدافهم ضد الإسلام والمسلمين ،ولكنّه لم يدخل معهم في معركةٍ عسكرية ،لأن الظروف التي كانت تحيط بالواقع الإسلامي لم تسمح بذلك ،لا سيّما في أجواء التحديات الصعبة التي كان يتعرض لها من قِبَل المشركين واليهود في حربه معهم ،ما كان يفرض البعد عن الصراع الداخلي وتحصين الموقف بما يحميه من السقوط .
المنافقون وموقفهم من النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلّم )
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} في اهتمامٍ ظاهريَ يوحي بالرغبة في المعرفة والحاجة إلى الاستفادة ،كغيرهم من المسلمين الذين يجتمعون إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) عندما كان يتلو القرآن أو يعظ أصحابه ،لأنهم كانوا يعملون على إظهار الاندماج في المجتمع المسلم ،كي يكسبوا الثقة الاجتماعية التي تتيح لهم الدخول في مشاريعه والتدخل في أموره ،{حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً} في لهجة من يريد الاستعلام عن بعض المفاهيم التي لم تتضح له طبيعتها ،ولكنها تحمل إيحاءً بأن كلام النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) غير مفهوم لأنه لا يعبّر بوضوحٍ عن فكره ،ما يجعل السامعين لا يفهمون ما يريد ،فيبادرون إلى الاستفهام ممن يملكون العلم ،ليروا هل أن المسألة هي مسألة قصور فهم لدى السامعين ،أو مسألة قصور تعبير لديه ؟وربّما كان حديث القرآن عن تساؤلهم ذاك وارداً مورد الإيحاء بأن استماعهم للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) لم يكن ناشئاً عن وعي لكلامه ،بل كانت قلوبهم لاهيةً عنه ،مشغولةً بأفكارٍ أخرى كانوا يفكرون بها أثناء حديث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ،فهم في وادٍ والنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) في وادٍ آخر ،ولهذا كانوا يبادرون إلى سؤال أهل العلم الذين كانوا يستوعبون كلام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ليحدثوهم عنه ،كي ينقلوا الكلام إلى الناس عندما يبادرونهم إلى السؤال عما سمعوه ،لئلا يقعوا في الإحراج إذا ما امتنعوا عن الجواب لعدم فهمهم أو وعيهم له ،وربما كان سؤالهم وارداً مورد السخرية من المؤمنين ليجعلوهم يرددون الكلام عدّة مرات ،سخريةً بهم .وهكذا كان جوهم النفسي السائد هو التعقيد الذي ينمّ عن الخبث والبعد عن الله ورسوله .
{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فأغلقها عن الانفتاح على الحق ،بعدما أغلقوها بكفرهم ونفاقهم ،ما يجعل من نسبة الفعل إلى الله نسبةً قائمةً بقانون السببيّة الذي جعله الله أساساً للترابط الذاتي بين الأشياء ،ما يجعل الفعل الصادر من الشخص يحتّم نتائجه على هذا الأساس ،فالفعل هو فعل الإنسان من خلال مباشرته للمقدّمات ،وهو فعل الله من خلال سببية المقدمات للنتائج .
{وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ} لأن الإنسان الذي يغيب عنصر العقل في تفكيره ،ويفقد روحية الإيمان ،لا بد من أن يتحوّل إلى إنسانٍ مزاجيّ تحكمه شهواته ،وتديره أهواؤه وتلعب به كما لو أنها رياح داخلية تحركها الغرائز والنوازع والمشاعر الملتهبة التي تحرق كل عناصر التعقل والاتزان في الإنسان .