علاقة الفتح بغفران الذنب
{لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .في هذه الفقرة سؤالان:
الأول: ما هي علاقة الفتح بغفران الذنب ،ليكون الأول تعليلاً للثاني بلحاظ ظهور «اللام » في التعليل ؟
الثاني: ما معنى غفران ذنب النبي ،وهو المعصوم في أقواله وأفعاله ،ثم ،ما هو المعنى لغفران الذنب قبل حدوثه ؟
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة متعددة[ 3] ،منها: أن الذنب ليس ذنب النبي مع الله ،ولكنه ذنبه مع أهل مكة ،في ما يعتقدونه من أن انطلاقته في الدعوة التي أدت إلى الصراع العسكري وغير العسكري ،يمثّل الذنب الكبير ،باعتبارها الحركة التي قتلت الكثير من رجالهم ،ودمّرت الكثير من هيبتهم .وبذلك كان الفتح ،الذي بدأ بصلح الحديبية معنوياً ،وانتهى بفتح مكة فعلياً ،ووقف بعده النبي ليعفو عن المشركين بعد السيطرة عليهم ؛ليكون ذلك أساساً لغفرانهم لما سلف ،ولما يأتي من ذنوبه بحقهم ،لأن عظمة عفو النبي عنهم في ظروفه الموضوعية ،تلغي كل مواقع الذنب في ماضيه ومستقبله ،وبذلك تكون كلمة الفتح منسجمة مع التعليل بالمغفرة .
أما نسبة المغفرة إلى الله ،فلأنه كان السبب في ذلك كله ،على نحو المجاز .
ومنها: أن المراد ذنب أمته باعتبار أنه يمثل قيادة الأمة التي تتحمل معنوياً مسؤولية أعمال أتباعها .
ومنها: أن المراد ذنب أبويه آدم وحواء ببركته .
ومنها: أن المسألة قائمة على الفرضية الطبيعية ،باعتبار أنه بشر يمكن أن يخطىء في المستقبل ،كما كان ذلك ممكناً في الماضي ،ولهذا فإن التعبير يعالج المسألة على أساس أنه لو كان الأمر كذلك لغفر الله له ،لأن مثل هذا الفتح المبين الذي قام به ،يمثّل العمل الأفضل الذي تسقط أمامه كل الذنوب ،بحيث يكون هو الحسنة التي لا تضرّ معها سيّئة .
وهناك وجوهٌ أخرى يرتكز بعضها على غفران ذنوب شيعة علي ( عليه السلام ) ما تقدم منها وما تأخّر .
ويروي القائلون بهذا روايات عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ،ولكننا لا نعتقد صحة هذه الروايات ،لأنها لا تنسجم مع الأسس الفكرية الإسلامية ،فإنه لا معنى للقول بما جاء في بعض هذه الروايات: «ما كان له ذنب ،ولا همّ بذنب ،ولكنّ الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له »[ 4] ؛أو أن «الله ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علي ( عليه السلام ) ما تقدم من ذنبهم وما تأخر »[ 5] ،لأنه لا معنى لتحميله تلك الذنوب ،كما لا معنى لاعتبار الفتح أساساً لذلك ،في الوقت الذي لم يكن فيه للشيعة أيّ وجود واقعي في المجتمع الإسلامي ،وكيف يمكن للقرآن أن يتحدث عن نتيجةٍ للفتح لا تتصل به ؟!
ولكن عند التدقيق في معالجة المسألة ودراسة التعبير الذي جاء في الآية ،نلاحظ أن كل هذه التفاسير كانت تحاول الهروب من المعنى الظاهر فيها ،يعني أنّ للنبي ذنباً متقدماً ومتأخراً ،وأن الله جعل الفتح سبباً في مغفرته ،لأن هذا المعنى لا يتناسب مع عصمة النبي ،أو كماله ،أو شخصيته النبوية التي تمثل النموذج القدوة ،فقد تكون بشريته محكومة لنقاط الضعف في طبيعتها ،ولكن رسالته ،التي انطلقت من الوحي ،لا بد من أن تمنح إنسانيته نقاط القوّة ،ولا بد من أن تكون قد درست مؤهلاته التي عاشها مدة أربعين سنة قبل الرسالة ،ليبني على أساسها شخصيته بالمستوى الذي لم يستطع الناس الذين عاشوا معه من أهله وأصحابه ،أن يسجّلوا عليه أيّة نقطةٍ سوداء في ما يروونه عن ماضيه الشخصي ،ولهذا فإن مسألة الذنب تتنافى مع هذا الماضي الطاهر المشرق الذي زاده حاضر الرسالة حركيّةً وقوّةً وإشراقاً وصفاءً ...
وعلى ضوء ذلك ،فلا بد من تجاوز هذا المعنى إلى ما يختزنه من إيحاءاتٍ تتناسب مع صفاء العمق الروحي للشخصية النبوية ،ولعل الأقرب إلى الجوّ أن نستوحي من المغفرة معنى الرضوان والمحبة والرحمة ،باعتبار أنها تمثل نتائج المغفرة ،ليكون المعنى ،هو أن الله يمنحك رضوانه ومحبته ،في ما يوحي به من معنى إيجابي يستلزم انتفاء المعنى السلبي ،باعتبار أن الفتح ،في ما يمثله ،هو الانطلاقة التي تفتح للإسلام باب الحياة الواسع الذي يدلّ الناس على الطريق إلى الله .وقد جاهد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) أقسى الجهاد حتى وصل إلى هذه النتيجة بتوفيق الله ورعايته ،ومن هنا كان ذلك سبباً في محبة الله له التي تشمل أوّل الجهاد قبل الفتح وآخره بعد الفتح .
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بوصول النبي إلى الأرض التي بدأت حياته فيها طفلاً وشاباً وانطلق بالدعوة فيها كهلاً ،وخرج منها تحت تأثير القهر والاضطهاد ،فإذا به ،بعد تلك المعاناة ،يرجع إليها فاتحاً بالرسالة المنفتحة على الواقع كله ،حيث يبدأ عهدٌ جديدٌ حافلٌ بالازدهار ،ليكون الدين كله لله وحده ،وليكون نصره نهاية طبيعية لجهاده تتم به النعمة عليه ،{وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُّسْتَقِيماً} ،وهو الصراط الذي يبدأ بتوحيد الله ،ويمتد بشريعته التي تجعل الإنسان مسؤولاً في كل أقواله وأفعاله ،ولينتهي بين يدي الله في اليوم الآخر إبان موقف الحساب .وهذا هو الهدف الذي تحركت المسيرة إليه ،وهذا ما هدى الله النبي إليه في وحيه ليعيش الهداية في حركته مع الناس الذين جعلهم الله حركة مسؤوليته ،