،{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرضِ} فلا يملكون دخول الأرض المقدسة ،لأنَّهم هم الَّذين اختاروا لأنفسهم ذلك ،وسيتحملون متاعب الضياع وأهواله ،وسيعيشون آلام الاهتزاز ومشاكله .وذلك هو مصيرهم الَّذي استحقوه نتيجة فسقهم العملي ،فلا تتألميا موسىمن موقع الرحمة في قلبك ،فإنَّ هؤلاء لا يستحقون الرحمة ،{فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
وقفات أمام القصة
وقد نحتاج إلى بعض الوقفات في أجواء هذه الآيات:
1ما المراد من قوله:{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} ؟هل المراد المعنى المتبادر من الكلمة أي السلطنة والحاكميّة ،وذلك مما ذكره القرآن في ملوكهم من طالوت فداود إلى غيرهما ،وهذا ما لم يتحقق لبني إسرائيل إلاَّ لفترة قصيرة ،والظاهر من الآية أنَّه قد جعلهمبشكلٍ شاملٍملوكاً في مقابل قوله تعالىقبل ذلك{جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ} الأمر الَّذي يوحي بأنَّ الأنبياء فيهم معدودون ،بينما كلمة الملوك شاملة للجميع ،ما يبعد الكلمة عن هذا الاحتمال ظاهراً ؟
أو أنَّ المراد ملك المصير والأمر والموقف والموقع ،بحيث باتوا أحراراً بعد أن كانوا مستعبدين ،وباتوا مستقلين بعد أن كانوا أتباعاً ،وباتوا في حركةٍ من أمرهم بعد أن كانوا سادرين في الجمود ؟
وبكلمة أخرى ،باتوا يملكون شؤون أنفسهم وأمورها بعدما كانوا مملوكين من فرعون وزبانيته يتصرف فيهم كيفما شاء ،ومتى شاء ..وبذلك باتوا في مقابل الحالة السابقة الّتي كانوا فيها مملوكين .والَّذي يجعل هذا المعنى محتملاً ،بل وراجحاً ،هو عدم المانعية من إطلاق كلمة الملك على من يملك نفسه وظروفه وحركته ومصيره ..لا سيما أنَّها في اللغة قد تطلق على السلطان ،وقد تطلق على المالك لزمام الأمور ،أو المالك لشيء خاص .
وقد جاء في تفسير الدر المنثور عن النبي( ص ) ،قال: «كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً » .
وفيه: أخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في قوله:{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} قال: قال رسول الله( ص ): زوجة ومسكن وخادم .
إلاَّ أنَّ هذا التفسير لا ينسجم وسياق الآية ،ذلك أنَّ الآية واردة في مقام الامتنان على بني إسرائيل ،والامتنان يفيد التخصيص دون الاشتراك ،ولما كان اتخاذ المنازل والنساء والخدم عادة لا تخلو منها أمة من الأمم كما يفيد التاريخ ،لم يعد هذا الأمر أمراً يخص بني إسرائيل حتّى يكون من موارد امتنان الله تعالى عليهم .هذا في جانب ،وفي جانب آخر ،فإنَّ إطلاق «الجعل » يتنافى وواقع حال بني إسرائيل أنفسهم ،إذ من البديهي أنَّهم لم يكونوا كلهم ذوي منازل ونساء وخدم ،وإنَّما كان بعضهم على هذا الوصف دون البعض الآخر .
ولعل التنبه إلى ما تقدم أوجب ورود بعض الرِّوايات الّتي تنسب إلى بني إسرائيل أنَّهم أول من ملك الخدم ،كما ورد عن قتادة ،وهذا ما يتنافى والتاريخ .
لكن إذا ما كانت هذه الأحاديث ناظرة إلى واقع حال بني إسرائيل الجديدبعيداً عن تفسير الآيةثُمَّ حملت عليها ،عندها تكون في سياق تبيان المستوى الاقتصادي والاجتماعي لبني إسرائيل .
إذ من الواضح أنَّ وصف الملك في الأحاديث ،وصف يحاكي مرتبةً اقتصاديةًاجتماعيةً ،وهوبالتاليوصف ناظر إلى الانقسام الاجتماعي داخل المجتمع الإسرائيلي بين من هم ملوك ،ومن هم دونهم ،وهو بذلك ،إنَّما يعكس واقعاً اقتصادياً اجتماعياً جديداً لم يكونوا عليه ثُمَّ عملوا به ،وهذا بدوره يؤثر على جانب من الاستقلالية الذاتية ذات المدخلية الاقتصادية الّتي تجعل الإنسان مالكاً لنفسه ،ولا يخفى أنَّ الاستعباد غالباً ما يجد طريقه من بوابات الحاجة إلى الآخرين لإشباع الحاجات الذاتية .
2ما هي الأرض المقدسة المذكورة في الآية ؟
قيل: هي بيت المقدس ،وقيل: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن ،وقيل: هي أرض الطور وما حولها ،وقيل: هي أرض الشام كلها .وربَّما كان هذا القول هو الأقرب للواقع التاريخي ،لأنَّها أرض النبوات ،ومهبط الرسالات ،وساحة الأديان التوحيديّة الكبرى ،ما يجعل صفة القداسة الّتي تنطلق من طهارتها من الشرك أكثر التصاقاً بها .والله العالم .
3ما المقصود من{جَبَّارِينَ} في الآية ؟
قيل: إنَّهم العمالقة الَّذين يتميزون بضخامة الأجسام ،وطولها غير العادي ،حتَّى وضعت الأساطير في الحديث عن أحجامهم في العرض والطول ما يشبه الخرافات ،وقد دخلت الإسرائيليات الخرافيّةفي هذا الموضوعفي الكتب الإسلاميّة ،وقد ذكر المؤرخون في الحديث عنهم ،فقالوا: «كان العمالقة قوماً من العنصر السامي يعيشون في شمال جزيرة العرب بالقرب من صحراء سيناء ،وقد هاجموا مصر واستولوا عليها لفترات طويلة ودامت حكومتهم حوالي ( 500 ) عام منذ عام 2213 قبل الميلاد حتَّى عام 1703 قبل الميلاد » ،كما جاء في دائرة المعارف لفريد وجدي .
ويبدو أنَّ قوم موسى كانوا يعيشون الإحساس بالقوّة القاهرة لهؤلاء ،ما يجعلهم يرتجفون رعباً من التفكير بأنَّهم سوف يواجهونهم في ساحة الحرب .وربَّما كانوا يحملون بعض الإشاعات الأسطوريّة عنهم مما اعتاد النّاس أن يتحدثوا به عن أرباب القوّة بطريقة المبالغة ،ولهذا كان موقفهم حاسماً في رفض الدخول إلى الأرض المقدسة الّتي يسيطر هؤلاء عليها ،من دون التفكير بما يملكونههممن عناصر القوّة في مقابل ما يعيش فيه العمالقة من عناصر الضعف ،لا سيّما أنَّ هؤلاء قد لا يملكون حريّة الحركة في داخل المدينة كنتيجةٍ للتعقيدات الّتي تفرضها ضخامة أجسامهم ،كما أنَّ الهجوم المفاجىء قد يهزمهم من ناحية نفسيّة .وتلك هي مشكلة الَّذين لا يعيشون الإيمان الواعي بالله والثِّقة برسله ،هذا الإيمان الذي من شأنه أن يوحي بالثقة بالنفس بما يفرضه من امتلاء العقل والقلب والحركة بالله وتفريغ الذات من الإحساس بقوّة الآخرين ،ولهذا رأينا الرجلين اللذين يخافان الله ،واللّذين أنعم الله عليهما بنعمة الإيمان القوي ،يشجعان تلك الجماعات على الهجوم المباغت متوكلين على الله ،ومنفتحين على عناصر النصر ،من خلال الإيمان به وبرسله وبنصره ،وأن يكون لديهم ،بالتالي ،ثقة كبيرة بالغلبة عليهم ،لأنَّ المسألة هي في امتلاكهم لإرادة النصر والإيمان كي ينصرهم الله تعالى على الآخرين ولو بعد حين .
4لقد ورد في سياق قصّة موسى وقومه قوله:{الأرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} حيث يبرز أمامنا سؤال عن المقصود بكلمة{كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} فهل المراد بها القضاء بتوطينهم فيها ،أم أنَّ المراد بها تمليكها لهم على نحو ما ينادي اليهود الان بأنَّ الأرض المقدسة هي ملك «إسرائيل » باعتبارها وعداً إلهياً ؟
إنَّ جلّ ما يمكن لنا استيحاؤه من ظاهر قوله تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أنَّ المراد بالكتابة هنا أنَّ الله قد وعد بني إسرائيل بعد خلاصهم من فرعون أن يسكنهم أرضاً يستطيعون الحياة فيها بكرامةٍ على أساسٍ من الإيمان والطاعة لله ورسله ،ولهذا فإنَّ العرض الَّذي قدمه موسى( ع ) إليهم هو أن يدخلوها ويجاهدوا القوم الجبابرة الكفرة الموجودين فيها بصفة الحكّام ،من موقع إقامة حكم الله في الأرض على أيدي المستضعفين في مواجهة الجبارين .وليس في الآيات ما يدل من قريب أو من بعيد على حقٍ قانونيٍّ إلهيٍّ لهم في هذه الأرض ،وبذلك يكون معنى الكتابة التقدير بأن يدخلوها ويسكنوها ويعبدوا الله فيها من خلال ما تمثِّله من معاني القداسة المتصلة بالأجواء العباديّة الروحيّة .وربَّما يتساءل البعض عن الجمع بين إرادة الله لهم باستيطانهم الأرض المقدسة وتحريمها عليهم أربعين سنة ؟!
والجواب: إنَّ الحديثفي الآيةلم يحدد وقتاً ولا جماعة معينين ،بل كان الحديث عن الأمة وعن المستقبل من حيث المبدأ وذلك باعتبارها المنطقة الّتي أراد الله لهم الاستقرار فيها بعد خروجهم من مصر وانتهاء فترة التيه الّتي كانت عقوبة لهم .والله العالم .
2نستوحي من هذه الآيات فكرة تربية الأمة على أساسٍ ينسجم مع الآفاق والأفكار الّتي تحملها القيادة أو تعيشها ،وصولاً إلى تحقيق الأهداف والغايات الكبيرة .فقد كانت مشكلة النبيّ موسى( ع ) أنَّه يقود أمّةً لا تؤمن بأفكاره ،ولا ترتفع إلى مستوى أهدافه ،بل كانوا يفكرون بالأمن والاسترخاء والراحة ،ولو على حساب مبادئهم ،بينما كان موسى يفكر بالحياة في حجم الرسالة ،وهذا هو ما تعانيه الشعوب الإسلاميّة بفعل تزوير أفكارها وتصوراتها للواقع ،وتربيتها على أساس الارتباط بحاجاتها اليوميّة واعتبارها الهمّ الكبير لها ،وابتعادها عن كل القيم الروحيّة الكبيرة الّتي تحتضن كل مصالحها الحقيقيّة المستقبليّة كأمة تعيش مرفوعة الرأس بين الأمم ،وبذلك تحوّلت إلى شعوب مستعمرة للكافرين والمستعمرين والظالمين من كل الأمم ،في أجواء ذليلة تنمِّي في داخلها قابليتها للاستعمار ،فيكون سلوكها وطريقتها في الحياة بمثابة دعوةٍ للمستعمر ليستعمرها ويحتوي بيديه كل حاضرها ومستقبلها في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي ،لتكون لعبةً لكل لاعب ،وطعمةً لكل طاعم ،وهذا ما يجعلنا مسؤولين عن ربط الأمة بأهدافها الكبرى من أجل التقاء القاعدة والقيادة في الطريق إليها على حد سواء .
6في مناجاة موسى( ع ) للهفي هذه الآياتلسنا أمام موقف ضعف وهزيمة ،بل هو موقف الرسول الَّذي يقدّم تقريره إلى الله من خلال شعوره بالمسؤوليّة أمام المشكلة الّتي تواجهه ،وينتظر التعليمات الّتي تحدد له موقفه ،وهذا ما نستوحيه من قوله:{لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسي وأخي} فكأنَّه يعرض ما يملكه أمام الله بأسلوب الإنسان الَّذي يقف مستعداً ليقدّم كل شيء ،ويستعين باللهبعد ذلكفي مواجهة الصعوبات الّتي تحيط به في موقفه الصعب ،وتلك هي صورة الشخصيّة القياديّة الرساليّة الّتي لا تتنازل عن دورها الكبير أمام التحديات ،بل تظل ثابتة القدم في وضوحٍ من الرؤيّة ،واستقامة على الخط ،وثبات على الطريق في اتجاه الهدف .
7إنَّ إطلاق كلمة{الْفاسِقِينَ} على تلك الجماعة الّتي تمرّدت على موسى( ع ) ،من جهة التمرّد العملي على الأمر الَّذي أصدره الله إليهم من خلال نبيهم( ع ) بالدخول إلى الأرض المقدسة في تلك الفترة وطريقتهم في الاستخفاف به وبالله في قولهم:{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} ،فكأنَّهم يستهينون بقدرة الله وبقدرتهمن خلال ربِّهعلى مواجهة الجبارين ،ولعلّ هذا يكشف عن الضعف الإيماني بالله وبالنبيّ ،بحيث يشبه الارتداد على أدبارهم ،فيخسرون بذلك مصيرهم في إنذار موسى( ع ) لهم بالنتائج السلبيّة في الواقع .
8لقد كان القضاء الإلهي عليهم بالتّيه مُدَّة أربعين سنة عقوبةً لهم على التمرّد ،وهم بذلك لم يحصلوا على الاستقرار ،ولم يطمئنوا في حياةٍ مدنيّةٍ مستقرةٍ في بلدٍ معين ،ولم يعيشوا عيشة البدو ،بل كانوا في حالة قلقٍ واهتزاز ،ما أدى إلى حالةٍ مدمّرة من الضياع النفسي ،والتّيه الحركي ،ونلاحظ أنَّ هذه العقوبة الدنيويّة لم تقتصر على الَّذين تمرّدوا أو ظلموا أنفسهم بالمعصية ،بل امتدت إلى موسى( ع ) والمؤمنين معه ،لأنَّ البلاء إذا حلَّ بالأمّة من خلال سلوكها عمَّ جميع أفرادها حتَّى الصالحين .