صراع الخير والشر في قصة قابيل وهابيل
إنَّها قصة قابيل وهابيل الّتي سنتابع مشاهدها مع هذه الآيات بتأمُّل واستيحاء ،مشهداً مشهداً ،فنقفبدايةًمع المشهد الأول ،لنجد فيه ابْنيْ آدم ،وقد قرّب كل منهما قرباناً إلى الله ،أملاً في قبول الله له للحصول على رضاه ومغفرته ،أو لتحقيق ما يطلبه كلٌّ منهما من حاجات ،فكانت النتيجة رفض قربان أحدهما وقبول قربان الآخر ،ولم يتقبّل الأوّل رفض الله قربانه برضىً وخضوع ،بل واجهه بتمرد واحتجاج ،اتجه به إلى البغي والعدوان .
ثُمَّ ننتقل إلى المشهد الثاني ،فنرى فيه حواراً معبِّراً بين الأخوين ،بدأه الَّذي رُفِضَ قربانه ،بالتهديد والوعيد لأخيه المؤمن الَّذي تقبل الله منه القربان قائلاً له:{لاََقْتُلَنَّكَ} في لهجة تنضح بالحقد والحسد الطاغي الَّذي يتفجّر في صدره كالحمم ،ولم يكن هناك أي مبرر لهذا الموقف منه ،لأنَّ النتيجة ليست من صنع أخيه ليحسبها ذنباً من ذنوبه الّتي يستحق العقوبة عليها ،بل القضيّة من صنع الله في هذا وذاك ،فهو الَّذي رفض هذا وتقبّل ذاك ،فليكن الحساب مع الله إذا كان يمكنه ذلك أو يحقّ له ..ولكنَّه الحسد الَّذي يواجه فيه الحاسد المحسود ،من غير ذنبٍ جناه ،إلاَّ أنَّ الله أنعم عليه ولم ينعم على الحاسد .
فما كانت ردّة فعل الأخ المؤمن ؟
إنَّنا نلمح الوداعة الإيمانيّة والصفاء الروحي ،والمشاعر الطاهرة المنسابة في عروق الحياة ،كانسياب النّور في عروق الصباح ،والسلام المنهمر كالشلال من كل كلماته في ردّه على تهديد أخيه له ،من خلال ما نقله الله لنا عنه في الآيات المتقدمة ،في قوله تعالى:{لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لاَِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} .
إنَّه موقف «اللاعنف » أو «إرادة السلام » الَّذي يعبّر عن نفسه بهذه البساطة الموحية ،فهو لم يواجه أخاه بموقف تهديدي مضاد ،لأنَّه لا يؤمن بالمبدأ الَّذي يدفع الإنسان إلى قتل أخيه الإنسان قريباً كان أو بعيداً ،لمجرّد نزوة عارضة أو مزاج انفعالي ،بل يؤمن بإعطاء فرصة التراجع والمرونة لمن يتّخذ المواقف الحادّة ساعة الانفعال والغضب ،بفضل هدوء فكره ،ورحابة صدره ،ليسيطر على السلبيات الّتي تفجر الموقف وتخلق المشكلة ،ثُمَّ يحاول أن يربط ذلك كله بالإيمان بالله الَّذي يريد للإنسان السلام في الحياة ،فيعبّر عنه بأنَّه يخاف الله ربَّ العالمين ،الَّذي يطلع على كل أقواله وأفعاله ،فيحاسبه على كل شيء .
إنَّه يقف ليحذّره كي لا يحمِّل نفسه مسؤوليّة إثم القاتل والمقتول ،فيكون من أصحاب النّار ،الّتي هي جزاء الظالمين .وهذا هو مضمون الكلمة المأثورة عن الإمام محمَّد الباقر( ع ): «من قتل مؤمناً متعمداً أثبت الله عزَّ وجلّ على قاتله جميع الذنوب وبرىء المقتول منها » .ومن هنا جاء موقفه من أخيه كعمليّة ردع في البداية وعقوبة في النهاية .
وقد يخيّل لبعض النَّاس أنَّ الموقفهنايوحي بالروح الاستسلاميّة الانهزاميّة التخاذلية الّتي تنكر على الإنسان حقّ الدفاع عن نفسه ،ولكنَّ القضية ليست كما يُتخيَّل ،فقد كان الحوار يدوركما يبدوحول مبدأ العنف في مواجهة خيبة الأمل وثورة الانفعال ،باعتبارها لا تبرر شيئاً من ذلك ،وليس في الآية أيّة إشارة إلى تفصيل ما حدث وكيف حدث .هل وقف المؤمن أمام أخيه الظالم موقف المستسلم ،أو موقف الدفاع عن نفسه ،أو أنَّ الجريمة حصلت بفعل المفاجأة وبطريقة الاغتيال ؟لقد أغفلت الآيات ذلك كله ،لأنَّها لا تريد الدخول في التفاصيل البعيدة عن حركة الفكرة في الحوار ،بل كانت تركّز على أصل الفكرة من حيث طبيعتها ،أو من حيث تمثيلها لبداية الشر في الكون ،ولسذاجة المجرم الشرير البدائي ،وجهله بطريقة إخفاء جريمته أو دفن ضحيّته ،حتَّى بعث الله له غراباً يعرّفه كيف يواري أخاه ،ما جعله يخضع لحالات التأمل العميق الّتي تؤدي به إلى الندم على كل ما فعله .
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءْادَمَ بِالْحَقِّ} التلاوة من التلو وهي القراءة ،سميت بها لأنَّ القارىء للنبأ يأتي ببعض أجزائه في تلو البعض الآخر .والنبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى ونفع .
من هنا ،فقوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} يراد به قصة النبيّ آدم أبي البشر ،وتقييده ،سبحانه وتعالى ،الكلام بقوله:{بِالْحَقِّ}وهو متعلق بالنبأأو بقوله:{وَاتْلُ} لا يخلو من إشعار ،بأنَّ نبأ هذه القصة كما هو معروف في الوسط الديني اليهودي لا يخلو من تحريف وإسقاط ،وهذا ما هو عليه الأمر بالفعل ،إذ إنَّ الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة المتصدي لخبر هذه القصة ،أسقط منه الجزء المتعلق ببعث الغراب وبحثه في الأرض ،كما أنَّ القصة ،كما هي واردة في التوراة ،صريحة في تجسيم الرب ،تعالى عن ذلك علواً كبيراً .ولا ريب أيضاً ،أنَّ في هذا التقييد إشعاراً للنَّاس ،بأن يكون تناقلهم للأخبار دقيقاً خالياً من التحريف والتشويه والإسقاط أو الإضافات .
ويبقى أنَّ قصة هابيل وقابيل التي تمثل صراع الخير والشر ،هي أول جريمة تعود إلى فجر التاريخ ،حيث تشكل الإرهاصات الأولى للواقع الاجتماعي وللتجارب النفسية الشخصية ..،الّتي قد تسهم تعقيداتها في إيجاد الدوافع الذاتية للجريمة .كما تظهر هذه الحادثة التأثيرات الّتي يمكن أن تتركها الدعوة الدينية حتّى ولو في صورتها الأولية على الإنسان الفطري الساذج ،لا سيما في بُعدها القيمي والأخلاقي .فموقف الأخوين صريح في الكشف عن هذا التأثير سلباً أو إيجاباً .
فبالرغم من أنَّ كليهما ينتميان إلى بيئة اجتماعية ساذجة هي أقرب وألصق بحياة الفطرة والطبيعة ،حيث لم تتعقد العلاقات على أنواعها ولم تبلغ درجة عالية من التطور ،بحيث إنَّ الأثر الاجتماعي ،في ذلك الوقت ،على سلوك الإنسان ،كان لا يزال ضعيفاً ،ما يترك هامشاً أكبر للنوازع الذاتية على الجوانب الغريزية في الإنسان في التأثير على السلوك الإنساني عموماً ،لا سيما إذا ما توفرت الأجواء المناسبة لها ،تماماً كما هي الحالة الّتي تكشف عنها قصة النّبيّ آدم( ع ) .
فآدم( ع ) ،وبوحي من نبوته من جهة ،ومن تجربته القريبة في الجنة ،الّتي خاض فيها تجربة مرة مع إبليس ووسوساته وإغراءاته كان الثمن خروجه منها ..وهبوطه وزوجه إلى الأرض ..أراد( ع ) بوحي من ذلك كلّه ،أن يوفر على ولديه مثل هذه المعاناة ،فقام ،ولا ريب ،بوعظهما ونصحهما وإرشادهما وتعليمهما ،بما يتناسب وإمكانياتهم الذاتية آنذاك ،من قيم الإيمان وسلوكياته المتنوعة .ويبدو أنَّه كان هناك ،على الأقل ،قبول مبدئي بهذه التصورات الدينية الأولية من كليهما ،يظهر ذلك من توجيههما معاً لتقديم القرابين لله تعالى ،إلاَّ أنَّ تقديم هذه القرابين كان بمثابة الظرف المناسب للكشف عن حقيقة إيمان كلٍّ منهما ..إذ ما كاد الله تعالى يتقبل من هابيل حتّى انتفض قابيل ساخطاً محتجاً بفعل الحسد الَّذي أخذ بمجامع قلبه وضميره وعقله ،فكان أن هدد أخاه بالقتل .وهذا من شأنه أن يكشف لنا عن أنَّ الإيمان ليس مجرد فكرة نعتنقها أو نتبناها ،وإنَّما هو أولاً وأخيراً ،استجابة مستمرة للتحديات ،وثبات في الموقف إزاءها من موقع الإيمان نفسه .
التقوى هي الأصل
ولذلك أراد الله لنبيّه أن يتلو على النّاس خبر هذين الولدين اللذين عاشا مع أبيهما آدم وتأثرا به في مسألة الإيمان ،ولكنَّهما اختلفا في استقامة أحدهما وانحراف الآخر في نهاية المطاف ،حيث قاما بتقديم القربان إلى الله ليتقربا إليه مما قد يكونفي ذلك الوقتنوعاً من العبادة ،ولم تكن بينهما أيّة مشكلة قبل ذلك ،بل كانا يعيشان كأخوين في النسب والإيمان ..وكانت التجربة الأولى{إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا} وهو هابيل كما تتحدث الرِّوايات ،{وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} وهو قابيل ،ربَّما عرفا ذلك من خلال العلامة المذكورة في آية أخرى في قوله تعالى:{الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [ آل عمران:183] ،فإنَّ الظاهر من هذا ،أنَّ هناك ناراً إلهيّة يرسلها الله لتأكل القربان المقبول وتترك غير المقبول ،وقد أكدت هذا المعنى الرِّوايات الإسلاميّة الواردة في هذا الموضوع ،كما تحدثت عن الخلفيات النفسيّة لهذين الرّجلين في الإخلاص لله ،وقالت كما في تفسير القمي نقلاً عن الميزان: لما قرب ابنا آدم القربان ،قرب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته ،وقرب الآخر ضغثاً من سنبل ،فتقبل من صاحب الكبش وهو هابيل ،ولم يتقبل من الآخر ،فغضب قابيل ،فقال لهابيل: والله لأقتلنّك ..إلى آخر الحديث[ 2] .
وتكشف هذه الرِّواية عن الروح السمحة لهابيل في إخلاصه لربِّه ،فيقدم في عبادته له أفضل ما عنده ،بينما يعيش قابيل روح البخل الذاتي والتلوث الروحيحتَّى في العبادةفيقدم ما لا قيمة له عنده ،وهكذا تقبّل الله من هابيل قربانه دون قابيل ،وفوجىء قابيل بالنتيجة الّتي دلت على تميز أخيه ،وتقدمه عليه ،في الكرامة الّتي حصل عليها من الله ،ما جعله يشعر بالإحباط والسقوط أمام إخوته ،فتحركت في داخله عقدة الحسد الّتي بدأت تأكل قلبه وتقضُّ مضجعه ،وتوحي إليه بالكثير من الأفكار الشريرة ضد أخيه الَّذي لم يكن له يد في ما حصل له من الرفض الإلهي لقربانه .
وهكذا تحوّل الحسد عنده إلى إرادة بغي وعدوان وتهديد لأخيه ،حتَّى أنَّه لم يملك نفسه من الإعلان عن عزمه على قتله ،ما يعني أنَّه كان لا يتقن أساليب الإخفاء لما في قلبه من خلال السذاجة الفكريّة والعمليّة ،فلم تكن له أيّة معرفة بوسائل اللف والدوران الّتي تمثل الحيل الخفيّة في الإيقاع بالآخر:{قَالَ لاََقْتُلَنَّكَ} لأنَّك أصبحت تُمثِّل الرمز الأفضل لأكونأنافي موقع الرفض والإهمال من قِبَل الله ،وإني لا أطيق ذلك ،ولا أتحمل رؤيتك تتحرك في الحياة في فضائلك الأخلاقيّة والروحيّة ،لأنَّك تذكرني دائماً بهذا الموقف المهين ،{قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ،فلم تكن المسألة في طبيعتهافي قبول قرباني ورفض قربانكمتعلّقة بالجانب الذاتي في شخصك أو شخصي ،بل هي متصلة بالجانب الإيماني في العقل ،والجانب العملي في الواقع ،فقد سرت على خط التقوى في مراقبتي لله في السرّ والعلن في أموري كلها ،وأطعته في أوامره ونواهيه ،بينما كنت على النقيض من ذلك ،أنانياً لا تفكر إلاَّ بنفسك ،خاضعاً لشهواتك ،ناسياً لربك ،جاهلاً لمقامه ،الأمر الَّذي أدّى بك إلى أن تكون علاقتك بالله خارج ذاتك من دون روح ولا إيمان ،وهذا هو سرّ المسألة ،فالله يتقبّل من المتقين ولا يتقبل من غيرهم ،لأنَّ التقوى هي الّتي تقرّب الإنسان إلى ربِّه من خلال تقوى العقل والقلب واللسان والعمل بالجوارح كلها .فلماذا لا تتقي الله في حاضر أمرك ومستقبله ؟فلعلّ ذلك يحقق لك ما تريده من محبة الله لك ،فيتقبل قربانك من جديد في أجواء التقوى عندك