{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( 27 ) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( 28 ) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ( 1 ) فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ( 29 ) فَطَوَّعَتْ ( 2 ) لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 30 ) فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ ( 3 ) فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ ( 4 ) أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( 31 ) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ ( 5 ) فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( 32 )} ( 27 -32 ) .
تعليق على الآية:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ}
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من تلقين وصور
عبارة الآيات واضحة .وقد أمرت أولاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة نبأ ابني آدم اللذين قربا لله قربانا ،فتقبل من أحدهما ولم يتقبله من الآخر .واستمرت هي والآيات الأربع التالية في سرد بقية النبأ وما كان من حوار بين الأخوين وما كان من إقدام أحدهما على قتل الآخر وندمه وخسرانه .أما الآية السادسة فجاءت معقبة على النبأ مؤذنة بما كتبه الله على بني إسرائيل نتيجة لذلك .ومنددة بهم ؛لأنهم برغم ما أرسله إليهم من رسل بالبينات لم يرعووا ،وكانوا مسرفين في الأرض بغيا وفسادا .
ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات .وإنما قال الطبري في سياق تفسيرها: إن الله تعالى أمر رسوله بتلاوة هذه القصة على اليهود الذين هموا أن يبسطوا أيديهم عليه وعلى أصحابه ليعرفهم مكروه عاقبة الظلم والمكر وسوء مغبة الجور ونقض العهد وجزاء الناكث وثواب الوافي ؛حيث يفيد هذا أن ضمير{عليهم} عائد على بني إسرائيل الذين كانوا موضوع الكلام في الآيات السابقة .وتابعه في صرف الضمير إلى اليهود ابن كثير .وقد صرفه الخازن إلى قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون لهم في ذلك عبرة .وصرفه الزمخشري إلى أهل الكتاب إطلاقا .وصرفه السيد رشيد رضا إلى المستمعين إطلاقا من كتابيين وغير كتابيين .ونحن نرجح كلام الطبري بقرينة الآية الأخيرة التعقيبية التي فيها تنديد باليهود .ونرجح في الوقت نفسه أنها متصلة بالسياق السابق ومعطوفة عليه .وأنها استهدفت بخاصة استئناف التنديد ببني إسرائيل الذين لم يرعوا عن انحرافهم برغم ما كان من تحذير الله لهم وإرساله رسله بالبينات إليهم .
ولقد تعددت روايات المفسرين ( 1 ){[808]}في تأويل{ابنى آدم} حيث روى الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل كما روى عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل وليسا ولدي آدم من صلبه ،وروى في الوقت نفسه عن ابن عباس أنهما رجلان من بني آدم .وقد قال بعد أن استعرض الروايات: إن القول الأول هو أولى الأقوال عنده بالصواب ،وهو ما عليه جمهور المؤولين والمفسرين أيضا .
وفي الإصحاح الرابع من سفر التكوين المتداول ،وهو أول أسفار العهد القديم قصة قتل قابيل لأخيه هابيل ،وهما الولدان الأولان لآدم .وكان قابيل البكر منهما .والقصة تتلى تلاوة تذكير على بني إسرائيل الذين كان سفر التكوين متداولا عندهم ؛حيث يبدو من ذلك صواب تصويب الطبري وجمهور المؤولين والمفسرين ،وكون القصة القرآنية هي نفس القصة .ولقد روى ابن كثير حديثا أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود جاء فيه: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ؛لأنه كان أول من سن القتل ) حيث يؤيد هذا الحديث ذلك أيضا .
وبين النص القرآني وما جاء في الإصحاح المذكور توافق في الجوهر .وملخص ما جاء فيه: ( أن قابيل كان يحرث الأرض وهابيل كان راعي غنم .وأن كلا منهما قدم للرب تقدمة فتقبل الله تقدمة هابيل دون قابيل فشق ذلك على قابيل ،وقال لأخيه لنخرج إلى الصحراء ،فلما خرجا وثب عليه فقتله ،وسأل الرب قابيل ماذا صنع بأخيه وأين هو ؟فأنكر .فقال له: إن دمه يصرخ إلي من الأرض ،ثم لعنه وأنذره بأن يبقى شاردا على وجه الأرض ولا تعطيه قوتها ،فخرج فأقام في أرض نوا شرقي عدن ) وليس في الإصحاح الحوار الذي حكته الآيات إلا قصة الغراب .ونعتقد أن هذا مما كان واردا في قراطيس أخرى ومتداولا في أوساط الكتابيين .
ولقد روى الطبري وغيره عن ابن عباس وغيره بيانات مفصلة ومتنوعة على هامش هذه الآيات فيها قصة اختلاف الأخوين على تبادل أختيهما التوأمتين لتكون كل واحدة منهما زوجة للآخر واقتراح أبيهما بتقريب كل منهما قربانا إلى الله على سبيل الاحتكام إليه ،وتقبل الله قربان هابيل بإنزاله نارا أكلته دون قربان قابيل وتعليم إبليس لقابيل كيفية قتله لأخيه .وإرسال الله غرابين قتل أحدهما الآخر ودفن القاتل القتيل ليكون تعليما لقابيل بدفن أخيه الذي قتله .وأغرب بعضهم فذكر شدة توجع آدم على قتل ابنه وإنشاده شعرا عربيا فصيحا بذلك ؛حيث يدل كل هذا على كل حال أن القصة وما جاء في الآيات مما ليس في سفر التكوين المتداول مما كان متداولا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،وهو يدعم ما قلناه قبل .
والأسلوب القرآني للقصة يدل بوضوح على أنها إنما جاءت للعظة والتذكير ،وهو الهدف الجوهري الذي استهدفه القرآن دائما في قصصه .وقد استهدفت آيات القصة فيما استهدفته كما هو المتبادر بيان كون الله عز وجل الذي يعلم نوايا الناس في أعمالهم وسلوكهم إنما يتقبل من المتقين ذوي النوايا الحسنة والرغبات الصادقة ويشملهم برضائه ،ثم بيان ما ترتب على حادث عدوان الأخ على أخيه بغيا من حكم رباني عام كتبه على بني إسرائيل بأن الذي يقتل نفسا بغير حق وبقصد الفساد في الأرض ،فكأنما قتل الناس جميعا .ومن عفا عن دم نفس وحماها ،فكأنما أحيا الناس جميعا .ثم التنديد ببني إسرائيل على عدم ارعوائهم وارتداعهم عن الإسراف في البغي والفساد برغم ما أرسله الله إليهم من رسله بالبينات .
ويتضح من إنعام النظر في هذه الأهداف أنها عامة الشمول لمختلف الأمم وفي مختلف الظروف .وهي الحالة هذه شاملة لبني إسرائيل ولغيرهم وبخاصة للمسلمين الذين يجب عليهم اتخاذ ما جاء في القرآن من عظات وتلقينات هديا لهم ونبراسا .ولقد روى ابن كثير أن سائلا سأل الحسن البصري من علماء التابعين هل هذه الآية لنا كما هي لبني إسرائيل ؟فقال: أي والذي لا إله غيره .وما جعل الله دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا .
وينطوي في جملة:{مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} عظات اجتماعية بالغة .فالنفس الواحدة تمثل النوع في جملته .ومستحل دمها مثل مستحل دم كل نفس أو جميع النفوس .وكذلك الأمر في احترام وحماية دم النفس الواحدة .وفيها تقرير لوحدة البشرية وإيجاب حرص كل إنسان على حياة المجموع واجتنابه ضرر كل فرد .وإيجاب التكافل والتضامن بين البشر في كل ذلك كما قال السيد رشيد رضا .وفيها بالإضافة إلى ذلك تعظيم دماء البشر على بعضهم ،وتعظيم عقوبة المجترئ عليها وتعظيم ثواب من يحترمها ويحميها كما قال الطبري .
واختصاص بني إسرائيل بالكلام في الآية التعقيبية التي جاءت فيها تلك الجملة ليست من شأنه أن يغطي على تلقينها الشامل المستمر لغير بني إسرائيل وبخاصة للمسلمين في كل ظرف ومكان .
والمتبادر أن هذا الاختصاص هو متصل بسياق الآيات الذي احتوى تنديدا ببني إسرائيل ؛حيث هدف إلى استئناف التنديد بهم بسبب استمرارهم على إسرافهم وبغيهم إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برغم ما جاءهم من الله من رسل وأنذروا به من نذر .
وقد لا يكون في الأسفار المتداولة اليوم جملة مماثلة للجملة التي جاءت في الآية السادسة بأن الله كتبها على بني إسرائيل .غير أن هذا ليس من شأنه أن ينقض ما جاء في القرآن من ذلك ؛لأن بني إسرائيل قد حرفوا وبدلوا وأخفوا وأضاعوا كثيرا مما جاءهم وبخاصة في سفر الوصايا المبلغة من الله تعالى لموسى والذي كتبه موسى وسلمه للكهنة من اللاويين على ما ذكرناه في تعليقنا على كلمة التوراة في سورة الأعراف .ومع ذلك ففي أسفار العهد القديم العائدة إلى عهد موسى عليه السلام أو بعده تشريعات وإنذارات مشددة ورهيبة بشأن الانحرافات الدينية والاجتماعية والأخلاقية ،على ما ذكرناه قبل .
هذا ،ويلحظ أن السياق الطويل الذي بدأ من الآية ( 4 ) في صدد أهل الكتاب واليهود والنصارى لم يذكر من شذوذ النصارى إلا إشارة إلى نسيانهم حظا مما ذكروا به ثم إلى عقيدتهم بألوهية المسيح في حين جاء الكلام مسهبا وشديدا بالنسبة لليهود .وهذا ما تكرر في القرآن ونرى في هذا قرينة على صورة كل من الفريقين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛حيث يبدو منها أنه لم يكن من النصارى مواقف عملية وخلقية مزعجة وخبيثة بعكس اليهود .وهذه الصورة ترى خلال ما جاء في القرآن عن النصارى واليهود بصورة عامة باستثناء ما جاء في بعض آيات سورة التوبة مما سوف نعلق عليه في مناسبته .
وقد يكون في ذكر اليهود بالأسلوب الذي ذكروا فيه قرينة على أن هذه الآيات قد نزلت قبل جلاء جميع اليهود عن المدينة ،وعلى الأقل قبل وقعة جلاء بني قريظة آخر من نكل بهم منهم .وقد يكون في الآية التالية قرينة أخرى على ذلك .والله تعالى أعلم .
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بالإضافة إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود وأوردناه قبل في صدد القتال والفتن بين المسلمين مما هو متناسب مع مدى الآيات التي نحن في صددها .ومن هذه الأحاديث ما ورد في الكتب الخمسة .من ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار .
قيل: فهذا القاتل ،فما بال المقتول ؟قال: إنه أراد قتل صاحبه ) ( 1 ){[809]}وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سعد جاء فيه: ( قال سعد: يا رسول الله أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني ؟قال: كن كابن آدم القائل:{لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ} ( 2 ){[810]}ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث مع زيادة مهمة برواية الإمام أحمد جاء فيها: إن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: ( أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ،والقائم خير من الماشي ،والماشي خير من الساعي .قلت: يا رسول الله أفرأيت أن دخل علي بيتي فبسط يده ليقتلني ؟فقال: كن كابن آدم وتلا:{لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ) ( 3 ){[811]} .ونصوص الأحاديث النبوية تفيد أنها في صدد ما قد يقع بين المسلمين من فتن واقتتال .ومن الواجب أن ننبه في هذه المناسبة أن القرآن والسنة قررا حق المرء بالدفاع عن نفسه والانتصار من عدوان وظلم قد يوقع عليه .وجعل هذا الحق وسيلة لجعل الناس يرتدعون عن العدوان كما جاء في آيات سورة البقرة ( 190 ) والنساء ( 75 ) والحج ( 39 – 41 ) والشورى ( 37 – 43 ) التي سبق شرحها .وكما جاء في حديث رواه مسلم جاء فيه: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي .قال: فلا تعطه .قال: أرأيت إن قاتلني ؟قال: قاتله .قال: أرأيت إن قتلني قال: فأنت شهيد .قال: أرأيت إن قتلته .قال: هو في النار ) ( 1 ){[812]} .