عَطَفَ نبأ على نبإ ليكون مقدّمة للتحذير من قَتْل النفس والحِرابة والسرقة ،ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها ،وليحسن التخلّص ممّا استطرد من الأنباء والقصَص التي هي مواقع عبرة وتُنْظم كلّها في جرائر الغرور .والمناسبةُ بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ .فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى: فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة ،وأحدَ ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين .وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصيّة ؛فبنو إسرائيل قالوا:{ اذهب أنت وربّك}[ المائدة: 24] ،وابن آدم قال: لأقتلنّ الّذي تقبّل الله منه .وأمّا التّضادّ فإنّ في إحداهما إقداماً مذموماً من ابن آدم ،وإحجاماً مذموماً من بني إسرائيل ،وإنّ في إحداهما اتّفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى ،وفي الأخرى اختلافَ أخوين بالصّلاح والفساد .
ومعنى{ ابني آدم} هنا ولداه .وأمّا ابن آدم مفرداً فقد يراد به واحد من البشر نحو: « يَا بْن آدم إنّك ما دعوتني ورجوتَني غَفَرْتُ لك » ،أو مجموعاً نحو{ يا بني آدم خذوا زينتكم}[ الأعراف: 31] .
والباء في قوله:{ بالحقّ} للملابسة متعلِّقاً ب{ اتْلُ} .والمراد من الحقّ هنا الصدق من حقّ الشّيء إذا ثبت ،والصدق هو الثّابت ،والكذب لا ثبوت له في الواقع ،كما قال:{ نحن نقصّ عليك نبأهم بالحقّ}[ الكهف: 13] .ويصحّ أن يكون الحقّ ضدّ الباطل وهو الجدّ غير الهزل ،أي اتْلُ هذا النبأ متلبّساً بالحقّ ،أي بالغرض الصّحيح لا لمجرد التفكّه واللّهو .ويحتمل أن يكون قوله{ بالحق} مشيراً إلى ما خفّ بالقصة من زيادات زادها أهل القصص من بني إسرائيل في أسباب قتل أحد الأخوين أخاه .
{ وإذ} ظرف زمان ل{ نبأ} ،أي خبرهما الحاصل وقت تقريبهما قُرباناً ،فينتصب ( إذ ) على المفعول فيه .
وفِعْلُ{ قرّبا} هنا مشتقّ من القُرْبان الذي صار بمنزلة الاسم الجامد ،وأصله مصدر كالشُّكران والغفران والكُفران ،يسمّى به ما يتقرّب به المرء إلى ربّه من صدقة أو نُسك أو صلاة ،فاشتقّ من القرآن قرّب ،كما اشتقّ من النُّسك نَسَكَ ،ومن الأضحيّة ضَحَّى ،ومن العقيقة عَقّ .وليس{ قرّبا} هنا بمعنى أدْنَيَا إذ لا معنى لذلك هنا .
وفي التّوراة هما ( قايين ) والعرب يسمّونه قَابِيل وأخوه ( هَابِيل ) .وكان قابيل فلاّحاً في الأرض ،وكان هابيل راعياً للغنم ،فقرّب قابيل من ثمار حرْثه قُرباناً وقرّب هابيل من أبكار غنمه قرباناً .ولا ندري هل كان القربان عندهم يعطى للفقراء ونحوهم أو كان يترك للنّاس عامّة .فتقبّل الله قربان هَابيل ولم يتقبّل قربان قابيل .والظاهر أنّ قبول قربان أحدهما دون الآخر حصل بوحي من الله لآدم .
وإنّما لم يتقبّل الله قربان قابيل لأنّه لم يكن رجلاً صالحاً بل كانت له خطايا .وقيل: كان كافراً ،وهذا ينافي كونهُ يُقرّب قرباناً .
وأفرد القربان في الآية لإرادة الجنس ،وإنّما قرّب كلّ واحد منهما قرباناً وليس هو قرباناً مشتركاً .ولم يسمّ الله تعالى المتقبَّل منه والّذي لم يتقبّل منه إذ لا جدوى لذلك في موقع العبرة .وإنّما حَمَله على قتل أخيه حسَده على مزيّة القبول .والحسد أوّل جريمة ظهرت في الأرض .
وقوله في الجواب{ إنّما يتقبّل الله من المتّقين} موعظة وتعريض وتنصّل ممّا يوجب قتله .يقول: القبول فعل الله لا فعل غيره ،وهو يتقبّل من المتّقي لا من غيره .يعرّض به أنّه ليس بتَقِي ،ولذلك لم يتقبّل الله منه .وآية ذلك أنّه يضمر قتل النفس .ولذا فلا ذَنب ،لمن تقبّل الله قربانه ،يستوجبُ القتلَ .وقد أفاد قول ابن آدم حصرَ القبول في أعمال المتّقين .فإذا كان المراد من المتّقين معناه المعروف شرعاً المحكي بلفظه الدالّ عليه مراد ابن آدم كان مفاد الحصر أنّ عمل غير المتّقي لا يقبل ؛فيحتمل أنّ هذا كان شريعتهم ،ثمّ نسخ في الإسلام بقبول الحسنَات من المؤمن وإن لم يكن متّقياً في سائر أحواله ؛ويحتمل أنْ يراد بالمتّقين المخلصون في العمل ،فيكون عدم القبول أمارة على عدم الإخلاص ،وفيه إخْراج لفظ التّقوى عن المتعارف ؛ويحتمل أن يريد بالتقبّل تقبّلاً خاصّاً ،وهو التّقبل التّامّ الدالّ عليه احتراق القربان ،فيكون على حدّ قوله تعالى:{ هُدى للمتّقين}[ البقرة: 2] ،أي هدى كاملاً لهم ،وقوله:{ والآخرة عند ربّك للمتّقين}[ الزخرف: 35] ،أي الآخرة الكاملة ؛ويحتمل أن يريد تقبّل القرابين خاصّة ؛ويحتمل أن يراد المتّقّين بالقربان ،أي المريدين به تقوى الله ،وأنّ أخاه أراد بقربانه بأنّه المباهاة .ومعنى هذا الحصر أنّ الله لا يتقبّل من غير المتّقين وكان ذلك شرعَ زمانهم .