{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ} ..وذلك هو مثل المنافقين الذين يضللون الناس في وعودهم الكاذبة ،حيث يثيرون الكثير من الأحلام والأوهام ،حتى يخيل لهؤلاء الناس أن المنافقين يمثلون الضمانة القوية في ما يعدون أو يتحدثون ،فيندفعون إلى ما أثاروه في أحلامهم وأوهامهم بكل ثقةٍ وعزيمةٍ ،حتى إذا دخلوا في دائرة اللعبة النفاقية ،واجهتهم الحقيقة بأن كل تلك الوعود سراب ،ورأوا أن المنافقين يبتعدون عنهم وعن تحمل مسؤوليتهم ويتبرأون من علاقتهم بكل ما يحدث لهم ،لأنهم يخافون من الأخطار المترتبة عليهم من خلال ذلك .
وهذا هو الأسلوب الشيطاني في علاقته بالإنسان ،فإنه يزين له الكفر بمختلف الوسائل التي يملكها في إثارة الشبهات حول الإيمان ،وفي تأكيد الفكر الكافر بطريقته الخاصة ،ويضمن له النتائج السعيدة بالخيالات الواسعة والأوهام الرائعة ،حتى إذا سقط الإنسان أمام كل تلك الإغراءات الفكرية والتهاويل العاطفية ،ووقع في قلب التجربة التي يواجه بها عذاب الله ،تبرأ منه ،{فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِىءٌ مِّنكَ} فلا مسؤولية لي بما كفرت وانحرفت ،لأنك تملك عقلاً تميز به الصواب من الخطأ ،وإرادة تؤكد بها موقفك ،فكيف تحمِّلني مسؤولية ما فكرت به وأردت السير فيه ؟ ،{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} فلا أملك معه شيئاً لنفسي فكيف أملكه لك ،ولا أستطيع تحمّل أي وضعٍ منحرف عن رضاه وعن إرادته ،لأن ما لديّ من المواقف المنحرفة يكفيني ،فليتحمل كل شخص مسؤوليته عن موقفه ،وهذا هو ما عبرت عنه الآية الكريمة:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُوني وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ إبراهيم:22] .
والظاهر أن المثل بخصوص الشيطان ورد في طبيعته الشاملة لكل أفراده ،وبخصوص الإنسان في كل أشخاصه ،وليست المسألة مختصة بشيطانٍ معينٍ أو إنسانٍ معين ،ولكن بعض الروايات تؤكد أن الآية تشير إلى شخصٍ خاص كما روي عن ابن عباس الذي قال: إنه كان في بني إسرائيل عابد اسمه برصيصا ،عبد الله زماناً من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوّذهم فيبرأون على يده ،وأنه أتي بامرأةٍ في شرفٍ قد جُنّت وكان لها إخوة ،فأتوه بها ،فكانت عنده ،فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت ،فلما استبان حملها قتلها ودفنها ،فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنه دفنها في مكان كذا ،ثم أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً ،فذكر ذلك له ،فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: والله لقد أتاني آتٍ فذكر لي شيئاً يكبر عليَّ ذكره ،فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم ،فسار الملك والناس ،فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل ،فأُمِر به فصُلب ،فلما رُفع على خشبته تمثل له الشيطان فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا ،فهل أنت مطيعي في ما أقول لك أخلصك مما أنت فيه ؟قال نعم: قال اسجد لي سجدةً واحدةً ؟فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ،فقال: أكتفي منك بالإيماء ،فأومى له بالسجود فكفر بالله وقُتل الرجل[ 2] .
ولكن هذه القصة لا تتناسب مع سياق الآية ،لأن الظاهر منها هو وقوع البراءة في موقف الحساب يوم القيامة ،كما أن المسألة ليست مسألة الإنقاذ من القتل ،بل مسألة الإنقاذ من النار ،وقد نقلناها لما فيها من عبرةٍ عما يمكن أن يثيره الشيطان من مشاكل للإنسان بفعل قدراته على الإغراء والتزيين ،وربما كانت مثل هذه الأقاصيص المذكورة في أسباب النزول ،لوناً من ألوان التطبيق لبعض المعلومات القصصية على القرآن ،وهذه المعلومات هي مما كان يحفظه الناس عن اليهود .