{أَشُدَّهُ}: واحدها شدّ ،مثل الأشرّ في جمع شرّ ،والأضرّ في جمع ضرّ ،والشدّ: القوة ،وهو استحكام قوة الشباب والسنّ ،كما أن شدّ النهار هو ارتفاعه ...وقيل: هو جمع شدّة مثل نعمة وأنعم ،وقال بعض البصريين: الأشد: واحد كذا في المجمع .
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} واليتيم هو أمانة الله في أعناق الأمة ،لأنه فقد القلب الذي يحوطه بالحنان ،والعقل الذي يرعاه بالرحمة ،والقوّة التي تقوي فيه عناصر ضعفه ،وبذلك أصبح بمثابة الكيان الضائع الذي لا يستطيع أن يحمي نفسه بنفسه ،مما يمكن أن يعتدي عليه الآخرون ،فيأكلون ماله ،ويهددون حياته ،فأراد الله أن يوصي به من أجل حماية ماله من الضياع ،فلم يجوّز التصرف فيه بأي نوع من أنواع التصرف إلا بالطريقة الأفضل والأحسن التي تنمي المال وتزيده ،وتحفظ بها حياته وتقوّيها ،تماماً كما لو كان الأب حيّاً أو أفضل ،ويستمر ذلك ما استمر اليتم ،وذلك في حالة ما قبل البلوغ ،فإذا بلغ أشدّه ،ووصل إلى مرحلة البلوغ والرشد ،وهي المرحلة التي يملك فيها القدرة الفكرية العملية على إدارة شؤونه المالية بطريقة متوازنة ،أعطي له ماله ليتصرف فيه كما يريد ،وهذا هو نوع من أنواع الأمن الاجتماعي لمثل هذه الحالات الصعبة في حياة الأمة ..
وقد تقدم في سورة النساء التشديد على أكل مال اليتيم ،بمثل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [ النساء:10] فإن اليتيم من أضعف المخلوقات ،وظلم الضعيف أفحش الظلم كما ورد في بعض الأحاديث .
إيفاء الكيل والميزان
{وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} وهذه هي أمانة التعامل ،فلكل من المتعاملين حق عند صاحبه في ما يفرضه قانون التبادل من انتقال كل عوضٍ إلى ملك الطرف الآخر في مقابل ما انتقل عنه ،وبذلك كان من واجب كل منهما أن يؤدي الحق إلى صاحبه كاملاً غير منقوصٍ ،لأن نقصانه عن مستواه يعتبر سرقة وخيانةٌ ،وهذا ما لا يفترضه الإيمان بالمؤمنين الذين ركز شخصيتهم على أساس الأمانة والإخلاص ،ولهذا حرّم التطفيف الذي يتضمن الأخذ بالزائد عن الحق ،والإعطاء بالناقص عنه ،واعتبره إفساداً في الأرض ،وخيانة للأمة ،وأمر بالوفاء بالكيل والوزن بالعدل .
{لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أي: قدرتها ،فإن الله لا يكلّف عباده ما لا يطيقون ،فكل ما أوجبه عليهم أو حرّمه فهو في مستوى الطاقة ،أو أدنى منها ،فإذا بلغ ما هو أعلى من ذلك ارتفع التكليف .
العدل في القول
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} والعدل هو هدف الرسالات في الأرض في حركتها الإيجابيّة ،كما أن تدمير الظلم هو هدفها الكبير في حركتها السلبيّة ،لأنه الخطوة الطبيعيّة لتحقيق الهدف الأوّل ،والقول شهادةً كان أو حكماً ،أو تقييماً ،أو تأييداً ،أو رفضاً ،ونحو ذلك ،هو مظهر العدل ،عندما يبتعد عن العاطفة والانفعال ،فيشهد الإنسان بالحق على أقرب الناس إليه ،أو يحكم أو يرفض بعيداً عن أيّ تأثر بالقرابة أو بالصداقة ،أما إذا انطلق من العاطفة فإنه يتحول إلى ظلم كبير ،في ما يشلّ به قدرة الحياة على تأكيد الحقيقة في حركة الكلمة المسؤولة ،فتضيع حقوق الناس في متاهات الانفعالات الذاتية ،المتقلّبة والمتنوّعة الاتجاهات ،تبعاً للحالة الذاتية لدى الإنسان سلباً أو إيجاباً ،وقد أمر الله بالعدل في القول حتى ضد القريب ،ونهى عن الظلم والانحراف عن الخط حتى بالنسبة إلى البعيد ،لتتكامل للأمّة خطوات العدالة في الحياة .
الوفاء بعهد الله
{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ} والوفاء بالعهد يمثل أمانة المواثيق والمعاهدات والتحالفات التي تقوم بين الناس في القضايا الصغيرة والكبيرة في حال السلم والحرب ،لأن العهد يقوم على الالتزام الذي يلتزمه الإنسان على نفسه ،في ما يتفق عليه مع الإنسان الآخر ،ليشعر كل منهما بالثقة بالحاضر والمستقبل في المشاريع المشتركة ،فإذا كان الوفاء ،كانت حالة الثقة في التعاهد ،هي التي تحرك قضايا الناس في الأمة والمجتمع ،وشعر الجميع بالأمن على سياسته واقتصاده ومصالحه وقضاياه من أيّة خيانة أو عدوانٍ ،وانطلق مع مشاريعه الجديدة في ثقةٍ واطمئنانٍ ،وإذا كانت الخيانة ،وعدم الوفاء ،دخلت الحياة في هاجس الخوف والقلق وانعدام الثقة ،فلا قيمة للكلمة ،لأن صاحبها لا يحمل مسؤوليتها بشرف ،ولا قيمة للالتزام ،لأنه لا يمثل حالة أمان للنفس والضمير ،بل يصبح مجرد كلماتٍ جوفاء لا تعني شيئاً ،ولا تُلزم بشيء ،وبذلك تبتعد الحياة عن حالة الاستقرار إلى حالة الاهتزاز والارتباك ،وتضيع الضمانات الحقيقيّة لقضاياه المصيريّة في حساب المواثيق والمعاهدات ،ولهذا كان الأمر بالوفاء وتحريم الانحراف عنه ،يمثل أدنى حدٍّ من حدود التوازن الاجتماعي في واقع الحياة والإنسان .
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لأن مثل هذه الوصايا تحتاج إلى وعيٍ دائمٍ ويقظةٍ مستمرةٍ ،فالغفلة عن أيّة واحدةٍ منها في حساب النتائج ،يبعد الإنسان عن الانسجام مع الخط الصحيح في الحياة .