هل كان أهل الكتاب يجهلون النبي محمداً( ص ) ليحتاجوا في معرفة نبوته إلى برهان ،وليثيروا حوله جدلاً عقيماً يتناوله كإنسان ،ويتناول صفته كرسول وموقعه كداعية إلى الله ؟إن القرآن ينفي ذلك ،لأن التوراة تحدثت عن صفاته ،والتاريخ الذي يتداولونه كان يؤكد لهم ظهوره أو خروجه للأجيال اللاحقة ،ولهذا كانوا يستفتحون به على الكافرين قبل ظهور أمره .ويثير القرآن القضية على أساس وضوحها الكامل الذي يجعل من الاقتناع بها أمراً غير قابل للجدل ،فأهل الكتاب يعرفون النبي( ص ) كما يعرفون أبناءهم من حيث الذات والصفة ،فلذلك لا يمكن لمن يحترم نفسه منهم إلا أن يعرفه كما يعرف أولاده:{الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} .
ولكنهم لم يلتقوا مع أنفسهم في خطّ هذا الوضوح المشرق للحقيقة ،بل ركنوا الى العُقد النفسية المظلمة التي تحكّمت في داخلهم على أساس الأطماع والشهوات ،وبذلك خسروا أنفسهم ،لأن قضية الربح والخسارة في الحياة لا تخضع لمقاييس الامتيازات الذاتية الطارئة التي تذوب وتزول في ما يذهب من أوضاع الحياة الفانية ،لأنها لا تمثّل هدفاً للحياة بقدر ما تمثل حاجاتٍ عاديةً لها ،ولهذا ،فإنها لا تصل إلى مستوى القيمة التي يضع الإنسان نفسه في موازينها ،بل إن قضية الربح والخسارة تحددها المبادىء الأساسية التي تحكم مسيرة الحياة في جوانبها المادية والمعنوية ،وتمثلفي طبيعتهاحركة الرسالة ،فتفتح للإنسان ،نافذةً على الدنيا المسؤولة من جهة ،ونافذةً على الآخرة المطمئنة من جهةٍ أخرئ ،وهذا ما عبّر عنه القرآن في دعوته الحاسمة في قوله تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [ المطففين:26] .
ولن يحصل الإنسان على ذلك كله إلا بالإيمان بالله ،الذي هو بداية كل خير ،ومنطلق كل صلاح وإصلاح ،والمنهج الذي يجمع له الدنيا والآخرة في ميزانٍ واحد ،من دون أن يطغئ جانب منه على جانب ،لأن ذلك هو معنى التوازن في إنسانية الإنسان وواقعية الحياة .ولهذا فرّع القرآن عدم الإيمان على الخسارة ،أو اعتبره مظهراً لها ،فإذا فقد الإيمان فقد النور الذي يشرق في فكره وقلبه ،والهدى الذي يفتح عيونه على الصراط المستقيم ،والنهج الصالح الذي يخطط له الحاضر والمستقبل .وهكذا كان الموقف المتعنّت لهؤلاء في ما رفضوه من حقيقة المعرفة للرسول خسارةً لهم في داخل حياتهم وخارجها ،لما تمثله خسارة الإيمان من ضلال وضياع في ظلمات التيه .