موسى يواجه الأذى من قومه:
وليس هذا الوضع المنحرف الذي يختلف فيه الفعل عن القول ،ببدع في المجتمع الديني ،في ما كان يمارسه بعض المسلمين في زمان الدعوة ،مما كان يؤذي النبي محمداً( ص ) ،بل كانت المشكلة سابقة مع موسى( ع ) الذي عمل على إنقاذ قومه من ظلم فرعون ،حتى أخرجهم من العبودية إلى الحرية على أساس الدعوة التوحيدية التي تجعل الناس خاضعين لله وحده في السير وفق أوامره ونواهيه ،ولكنهم كانوا خاضعين لرواسب العبودية التي تمنعهم من التطلع إلى آفاق الحرية في آفاق الله .
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} بعد أن قطع معهم شوطاً طويلاً عانى فيه الكثير الكثير من المشاكل والتحديات ،من أجل أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ،وتألم أشد الألم من أجلهم ،حتى كان إرسال بني إسرائيل معه المطلب البارز الذي قدّمه إلى فرعون ،لأنه كان يريد أن يجعل من مجتمع الاستضعاف ،الذي عاشوا فيه القهر والذل ،مجتمعاً إيمانياً قوياً يحرك كل ذكريات الماضي من أجل أن تتحول إلى ثورةٍ عاصفةٍ في وجه الاستكبار ،على أساس شريعة الله القائمة على العدل والحرية .وبدأ بالدعوة في أوساطهم ،ووضعهم في قلب التجربة ،وأعطاهم الحرية في التعبير عن أفكارهم ،انطلاقاً من إنسانية الدين في احترام إنسانية الإنسان .ولكنهم كانوا معتادين على الخضوع المطلق للجبار الذي يفرض عليهم إرادته بالقهر ،فلم يحترموا الشخص الذي يكلمهم بمنطق الإنسان ،حتى قالوا له: «أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا » .وهكذا استمروا في إيذائه وفي مطالبهم التي لا تنتهي ،وفي مشاكلهم التي لا تعد ،وفي تمردهم على أوامره ونواهيه حتى ضاق بهم ذرعاً فقال لهم:من موقع المستنكر المتألم لا من موقع اليائس المنهزم:{يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} ،فليست صفتي بينكم صفة الشخص العادي الذي ينتمي إليكم لتعاملوني كما يعامل بعضكم بعضاً ،بل إن صفتي هي صفة الرسول الذي أرسله الله إليكم ليهديكم وينقذكم من ظلم المستكبرين ،{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [ القصص: 5] ،وليحقق لكم النتائج الكبيرة في ما هو الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .ولو كنتم تجهلون هذه الصفة الرسالية في موقعي ،فقد يكون لكم عذر في ذلك ،ولكنكم تعلمون أني رسول الله إليكم ،فلا عذر لكم في ما تفعلونه ،لأنكم لا تتمردون علي بما تفعلونه ،بل تتمردون على الله ،ما يجعل الألم الذي أحس به ألماً رسالياً لا ألماً ذاتياً .ولكنهم استمروا في ضلالهم وابتعادهم عن المنطق ،{فَلَمَّا زَاغُواْ} عن الخط المستقيم بعد كل تلك الدعوة والمعاناة ،وامتدوا في ذلك{أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} فانحرفت عن السبيل السويّ ،في ما تفكر ،وفي ما تشعر ،لأن الممارسة في الطريق الخطأ تُحوّل الخطأ إلى حالةٍ عقليةٍ وشعوريةٍ ،بفعل الاستمرار ،ما يجعل الضلال حالةً طبيعيةً من خلال ارتباط المسّببات بأسبابها .وهذا هو معنى نسبة الزيغ إلى الله باعتبار أنه هو الذي ربط النتائج بمقدماتها .{وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} لأنهم إذا اختاروا الضلال بعد أن انفتح لهم طريق الهدى ،فإن الله يتركهم لضلالهم ،بعد إقامة الحجة عليهم من جميع الجهات .