النبي عيسى أمام تكذيب قومه له
والنبي عيسى وجهٌ أصيلٌ مشرقٌ في تاريخ الرسل ،ورسالته هي النافذة الرسالية التي تطل على الماضي والمستقبل ،فهي من جهةٍ تصدق التوراة ككتاب منزلٍ من الله ،لم يستنفد مفاهيمه وتشريعاته بمرور الزمن ،لولا بعض الأحكام التي حرمها الله ،وجاء عيسى ليحللها في ما نقله الله عنه{وَلأحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [ آل عمران ،50] ،وهي من جهة ،تبشر بالرسول محمد1 الذي يأتي من بعده ،مما يعني الانفتاح الكامل الذي لا يوحي بأية عقدة تعصب للمؤمنين بموسى( ع ) لأنه يؤكد لهم إيمانهم ،ولا يثير أي تعصب مستقبلي لدى المؤمنين به من ناحية الرسالة القادمة .ولكن المجتمع الإسرائيلي وقف ضده ،كما وقفت المجتمعات الأخرى ضد الأنبياء الآخرين .
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم} فقد كان منهم من ناحية أمه ،كما كان جزءاً من مجتمعهم ،ما يجعل من مسألة أنه رسول الله إليهم مسألةً تتصل بالواقع الذي تعيشه الرسالة من حيث الزمان والمكان ،لا باختصاص مهمته الرسالية بهم .وهكذا أراد أن يوجههم إلى هذه الصفة المتعلقة بمسؤوليتهم في الاستماع إليه ،والعمل بما يأمرهم به وينهاهم عنه ،لأنها أوامر الله ونواهيه ،كحلقةٍ من سلسلة النبوات في حساب الزمن ،{مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} التي جاء بها موسى ،في ما يوحي به التصديق من تأكيد المصدر الإلهي لها واستمرار العمل بها ،{وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} لتستقبلوه بالإيمان فور مجيء زمنه ،وانطلاق رسالته ،{فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ} من الدلائل الواضحة على صدقه في دعواه بما لا يرقى إليه الشك{قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ،لأنهم لم يستطيعوا أن يردوا عليه باتهامه بالكذب ،ولم يجدوا تفسيراً مضاداً لذلك من حيث طبيعة المضمون ،فكان السحر هو العنوان الذي يحركونه في عقول الجماهير البسيطة التي تعتبر كل شيء خارقٍ للمألوف لوناً من ألوان السحر ،في الوقت الذي كانت معجزات عيسى تمثل الحقيقة التغييرية التي يتغير فيها الواقع من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ،بينما لا يوحي السحر إلا بالتغيير الشكلي الذي يخدع البصر من دون أن يغيِّر من الواقع شيئاً ،ولكنه العناد المعقّد الذي يعمل على التعلق بأي شيءٍ في تبرير إنكاره ورفضه للرسالة .
وهذا الرفض هو لونٌ من ألوان محاولات الرفض التاريخي للرسالات التي جاءت لتغير واقع الناس نحو الأفضل ،مما كان يمارسه المترفون والمستكبرون الذين يريدون المحافظة على امتيازاتهم الاستكبارية ،ويعيشه المستضعفون على أساس تضليل المستكبرين لهم من جهةٍ ،وعلى أساس واقع التخلف الذي يمنعهم من مواجهة الرسالة بمنطق الفكر من جهةٍ أخرى .
وإذا كان الرفض يتمثّل بالتكذيب لهذه الرسالة ،فإنّ النبي قد واجه مثله كما واجه الاهتزاز العملي لدى المؤمنين ،الذي يتمثل في عملية رفضٍ واقعيٍّ لحركة الرسالة .