وهذا نداءٌ قرآنيٌّ يحمِّل المسلمين حضور صلاة الجمعة التي أرادها الله أن تكون صلاة جامعةً ،يلتقي فيها الناس في منطقةٍ واسعةٍ تمتد إلى فرسخين ،على عبادة الله المنفتحة على المفاهيم الإسلامية العامة التي يقف الخطيب ليؤكدها للناس في ما تحتاجه دنياهم وآخرتهم مما يهتمون به ،أو مما ينبغي الاهتمام به ،وذلك في خطبتين تقومان مقام ركعتين ،مما كان يؤديهما المؤمن في صلاة الظهر بدلاً عن الجمعة ،لأن صلاة الجمعة ركعتان تسبقهما خطبتان ،ما يوحي بأن الحديث الوعظي والتوجيهي ،حتى في المجالات السياسية المتصلة بحياة المسلمين يمثل لوناً من ألوان الصلاة حتى أنه يكون بديلاً عنها .وقد أكد الله على هذه الصلاة ،كما لم يؤكد على صلاةٍ غيرها ،بحيث ألغى الأعمال الأخرى التي تعيق المؤمن عن حضورها ،إلا ما كان يدخل في نطاق الضرر أو الحرج أو الاضطرار ،مما رفع الله مسؤوليته عن المكلّف ،فحرم البيع في وقت النداء إليها .{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} في استثارةٍ وجدانيةٍ لعمق الإيمان في وجدانهم ،ليتحملوا مسؤولية فرائضه في التزام ثابتٍ لا تختل مواقعه أمام أية حالةٍ من حالات الاهتزاز الداخلي والخارجي ،وذلك من جهة الإلحاح على استعادة هذه الصفة في شخصيتهم ،وتحريكها في حياتهم ،لئلا تشغلهم الأوضاع المحيطة بهم ،والصفات الآخرى الطارئة على حياتهم عن ذلك .
{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} لإقامة هذه الصلاة في جموع المسلمين ،ليلتقوا جميعاًباسم اللهفي عبادة الله المنفتحة على قضايا الحياة العامة ،{فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} والمراد به الصلاة التي تمثل التجسيد الحي المتحرك لذكر الله في حركاتها وسكناتها وقراءتها وأذكارها ،وقيل: إن المراد به الخطبتان قبل الصلاة ،باعتبار أنهما تشتملان على ذكر الله ،وعلى تذكير الناس به وبموقعهم منه ،{وَذَرُواْ الْبَيْعَ} فقد حرمه الله ،لأن القضية في هذا الوقت هي أن يلتقي المسلمون جميعاً في عبادةٍ جماعيةٍ لا في عبادةٍ فرديةٍ ،ليأخذوا الرخصة في الانفراد بها بعيداً عن جماعة المسلمين .
وإذا كان الله قد نهى عن البيع وقت النداء لأنه يمنع المؤمن من الصلاة ،فإن معنى ذلك أن النهي يشمل كل عمل مماثلٍ للبيع في هذه الجهة .وربما كان ذكر البيع بخصوصه ،باعتبار أنه الغالب على الناس آنذاك في ما يشغلهم أمره عن الصلاة .{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} لأن النتائج الروحية والعملية التي تحصلون عليها من خلال هذه الصلاة العبادية الثقافية المنفتحة على الجانب الاجتماعي والسياسي ،لا تقدر بثمن ،بحيث لا قيمة لما يربحه الإنسان من الأعمال الأخرى التي ينشغل بها عن الصلاة ،أمام الربح المعنوي والمادي الذي يحصل عليه في الحاضر والمستقبل ،من خلال النتائج الواقعية للصلاة على أكثر من صعيد .