{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} الواضحة التي لا مجال للشك فيها من قريبٍ أو من بعيد ،ولكنهم أثاروا حولها الكثير من الكلمات العابثة اللامسؤولة ،من أجل إثارة الشك حولها بالابتعاد عن التفكير في مضمونها الفكري ،والاتجاه إلى التركيز على شخصية النبي في ما يتصل بقضية بشريته{فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} ،فلا يمكن للنبي أن يكون بشراً ولا ينبغي لنا أن نخضع للبشر ،لأن مواقعنا لا تسمح بذلك ،لا سيما إذا كان هذا البشر من الطبقة الدنيا في المجتمع .فلو كان النبي ملكاً من الملائكة لكان للمسألة شيء من الجدية والقبول .{فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ} عن الرسول والرسالة ،على أساس هذا المنطق الذي لا أساس له من المعقولية ،لأن قضية الرسالة إذا كانت معقولةً في ذاتها ،فما المانع من أن يكون الرسول بشراً ،بل ربما كانت المسألة المطروحة أن يكون كذلك حتى يمكن له أن يمثل الخط الواقعي في القدوة ،عندما يريد من الناس الاقتداء به ،على أساس التساوي في القدرات البشرية العامة ،في ما يمكن للإنسان أن يتحمله من تكاليف وأوضاع .ولكن مشكلة هؤلاء أنهم لا يفكرون من موقع المسؤولية الفكرية ،بل ينطلقونفي مواقفهممن موقع الاستكبار الذاتي الذي يعيش أصحابه حالة الانتفاخ الداخلي ،فيخيل إليهم أنهم يمثلون موقع الأهمية الكبرى في رفضهم الخضوع لله ولرسوله .ولكن الله يرد عليهم هذا الوهم الكبير ،ليعرِّفهم بأنهم لا يمثلون شيئاً في ميزان القيم ،فإن الله لا يحتاج إلى إيمانهم ،بل إنهم يحتاجون إلى الإيمان للوصول إلى النتائج الصالحة في حياتهم الخاصة من خلال ما يحققه الإيمان لهم من طمأنينة الروح ،وصفاء النفس ،ووحدة الشخصية ،ووضوح الهدف ،وقوة الموقف من خلال الارتباط بقوة الله .ولهذا ،فإن مسألة الكفر لا تضر الله شيئاً{وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ} عن إيمانهم وعن وجودهم ،ولهذا فلن يضره أن يعذبهم ويهلكهم ويلقيهم في نار جهنم ،{وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فلا حاجة به لأحدٍ من خلقه ،وهو المحمود في فعله مهما فعل بهم .