{يَنَالُهُمْ}: النيل: وصول النفع إلى الإنسان إذا أطلق ،فإن قيّد وقع على الضرر ،لأن أصله الوصول إلى الشيء ،من: نلت أنال نيلاً .
{يَتَوَفَّوْنَهُمْ}: التوفّي: قبض الشيء بتمامه ،يقال: توفيته واستوفيته ،والمراد به هنا الموت .
صورة المكذِّبين بآيات الله
توضح الآيات الكريمة صورة المكذِّبين بآيات الله ،أو الذين افتروا كذباً على الله ،انطلاقاً من الأجواء المضلِّلة التي خلقوها وعاشوا فيها ،لإبعاد الناس عن صفاء الفطرة ووضوح الرؤية للأشياء ،في ما يخلطونه بالباطل من قضايا الحق ،وما يثيرونه في أفكارهم من شكوكٍ وشبهات ،وما يوحون إليهم به من أوهامٍ وتعقيداتٍ ،فتتضخّم شخصياتهم ،وتؤدّي بهم إلى الانحراف عن الحقيقة ،في زهوٍ وخيلاء ،وتقودهم إلى متاهات الكبرياء ...وهكذا تتجسَّد الصورة ،وتتعاظم في مدلولاتها ؛فإذا بالموقف من هؤلاء يمثل أفظع الظلم ،لأنه يسيء إلى خالق الحقيقة من جهة ،وإلى الحقيقة من جهة أخرى ...ولكنهامع ذلكالصورة التي تضيع معها أحلام الإنسان وطموحاته في الهواء ،لتتحول إلى ورقةٍ تهرب منه كلما عصفت الرياح ،وكلما امتد به الطريق أو تعقّدت في داخله الحيرة .
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فنسب إليه ما لم يشرّعه وما لم يقله ،{أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} وجحد رسالاته وتمرد على رسله ...فقد ظلم الله ربه حقّه في الإيمان والطاعة ،وظلم الحقيقة حقّها في الوضوح والإذعان .{أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} في ما قضاه الله وقدّره لعباده في الأرض من أرزاقٍ ومعايش في ما يأكلون ويشربون ويلبسون ويتلذذون… كغيرهم من عباد الله ،لأن الله لا يخص بنعمته عباده المؤمنين ،بل يفيض ما يشاء منها على جميع العباد .وتستمر بهم النعم ،وتمتد بهم الحياة…{حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا}وهم ملائكة الموت{يَتَوَفَّوْنَهُمْ} ويقبضون أرواحهم ليواجهوا حساب الله في ما قدموه من أعمال سيئةٍ ،{قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} من شركاء مما تصنعون من أصنام ،أو تخضعون لهم من بشر ...{قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} وابتعدوا وتركوناوحدنانواجه المسؤولية ،في حيرةٍ وضياعٍ وذهول ...فكيف كنا نكفر بالله وبآياته ؟وكيف سرنا في خط الضلال الذي قادونا إليه ؟{وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} في شعور عميق بالحسرة والتمزق والسقوط ...
مشهد المكذِّبين الأوّل
إنه المشهد الأول من المشهدين اللذين عالجتهما الآية .إنهم الكافرون في الدنيا ،وقد جاءت رسل الله بمهمة إماتتهم ؛ولكنهم وجهوا إليهم سؤالاً قبل القيام بمهمتهم ،في صيغةٍ هي أقرب إلى التبكيت والتوبيخ منها إلى الاستفهام ؛أين هؤلاء الذين كنتم تدعونهم من دون الله ،فليأتوا إليكم في هذا الموقف الحرج الذي يتحدّى أصل وجودكم واغتراركم به ليخلصوكم إذا كانوا يملكون بعض قوة الألوهية أو سلطتها ؟ويحمل الجواب مشاعر الخيبة القاتلة التي تجسد الضياع بكل معانيه: لقد ضلوا عنا وابتعدوا وضاعوا فلا أثر لهم ،تماماً كمن يمسك الريح وعندما يفتح يده فلا يرى شيئاً .وانكشفت الحقيقة ،فلا مجال للنجاة أو الإنكار ،وشهدوا على أنفسهم بالكفر بالله ،ووقفوا ليواجهوا نتائج ذلك كله ...وينتهي هذا الحوار ،ويسدل الستار ،ونعرف من خلال الجو أن المهمة قد انتهت وأنّهم انتقلوا إلى الدار الآخرة .