وقد بين – سبحانه وتعالى – ظلم أولئك المكذبين للرسل المفترين على الله تعالى وما يكون لهم يوم القيامة فقال:تعالت كلماته:{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب .
بعد أن بين الله الذين اتبعوا هدى الله ، وما منحهم الله من فضله من اطمئنان وأمن ورحمة ، وذكر الذين شقوا فكذبوا بآيات الله تعالى واستكبروا وصف بعض أفعال المكذبين الكافرين ومآلهم ، فقال:إنهم افتروا على الله الكذب ، وهم بذلك ظالمون ، وكذبوا بآياته ، وذلك ظلم ثان عظيم ، فقال تعالى:{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته} .
الاستفهام هنا إما للتعجب أو للإنكار ، وعلى الأول يكون المعنى:أي ظلم أفحش وأشد من الكذب على الله تعالى ، والافتراء عليه ، بهذا أمر من شأنه التعجب منه ، وإما على كونه للإنكار فيكون إنكار للواقع للتوبيخ على هذا الذي وقع منه ، والتعجب أو الإنكار من أمرين:أحدهما – الافتراء على الله ، وهو الكذب عليه من جهل قاطع للحق ، والثاني – تكذيب الآيات ، وإن الافتراء على الله تعالى قد وقع من بعض ، فمنهم حرم بعض الطعام الطيب ونسب ذلك إلى الله تعالى ، ومنهم من زعم أن الملائكة بنات الله تعالى ، ومن زعم أن الأوثان تقرب إلى الله تعالى ، فكل هذا افتراء عليه – سبحانه وتعالى – عما يقولون علوا عظيما .
وهذا ظلم عظيم بذاته يتعجب منه ويستنكر ، والظلم الثاني التكذيب بآياته ، ومعناها ألا يأخذ بما يهديه إليه من معجزات باهرات ، وآيات في الكون ظاهرات ، ومنها آيات توجب الإيمان بها إيمانا بالرسائل الإلهية كآيات التكليف التي أنزلها الله تعالى على رسله وعلى رأسها القرآن الكريم .
وهنا إشارتان بيانيتان:
الأولى – قوله:{ افترى على الله كذبا} . . . . . ( افترى ) هنا معناها قال قولا مخترعا له لم يكن له أصل وهو كذب في ذاته ، فالمعنى أنه في حقيقته كذب ، قد اخترعه أو افتراه كما في قوله:{. . . . . . . . إفك افتراه . . . . . . . . ( 4 )} ( الفرقان ) .
الثانية في التعبير بأو بدل الواو ، وهي للتهديد ، وهي تشير أن الافتراء على الله بمثل ما ذكرنا من اتخاذ الولد ، وغير ذلك من المفتريات ظلم فاحش يستنكر ويتعجب منه ، فليس الاستنكار منهما مجتمعين ، بل من كل واحد منهما منفردا ، ومجتمعا .
بعد ذلك بين الله تعالى ما يترتب على افترائهم وتكذيبهم ، فقال تعالت حكمته:{ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} الإشارة هنا إلى أولئك الذين ارتكبوا أشد الكذب نكرا ، وأفحشه كفرا ، وكما ذكرنا هذه الإشارة تفيد أن الوصف هو سبب ذلك الحكم عليهم .
و{ الكتاب} المراد به عند بعض المفسرين ما كتب لهم في الدنيا من رزق ، وما مكنوا منه من متع وما ينالون من مكاسب ومن سلطان ، ومن بعد ذلك يأخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر ، ولذلك ختم قوله تعالى بقوله:{ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} هذا الذي ينالهم هو في الحياة الدنيا ، وذلك كقوله:{ قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ( 69 ) متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ( 70 )} ( يونس ) ، ومثل قوله تعالى:{ ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور ( 23 ) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ( 24 )} ( لقمان ) ، وهذا توجيه قول الذين فسروا الكتاب بما كتب لهم من أجل .
ولكن يرد على هذا التعبير ب{ ينالهم} لا ب ( ينالون ) ، الرزق والمتع إذن كانت هي المكتوبة ينالونها ، وهذا يخالف التعبير بما ( ينالهم ) إنما نيلهم بأمر يكون عقابا لهم لا متعة ينالونها ويقترفونها ولذا نرى أن الكتاب الذي هو كتب لهم في الآخرة من حساب وعقاب ، إذ يجدون كتابهم قد سجلت فيه أعمالهم و ينالهم هذا النصيب من الكتاب الذي سجل ما فعلوا ، والتعبير ب ( نصيبهم ) من الكتاب تعبير دقيق يصور عدل الله تعالى فنصيبهم من العذاب هو نصيب في أعمالهم ، فجزاءهم مشتق من أعمالهم ، فكل نفس تجزى ما كسبت أي جزاءها من كسبها فلولا ما كسبت ما عذبت ، فعقابهم جزاء وفاق لعملهم .
إن ذلك الكتاب الذي سجلت فيه أعمالهم يأخذهم بنصيبهم منه من وقت قبض أرواحهم ؛ ولذا قال تعالى:{ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أينما كنتم تدعون من دون الله} .
( حتى ) هنا على قول من يقول:إن النصيب هو الأرزاق والمتع والآجال تكون بمعنى ( إلى ) أو للغاية ، أي أنهم يتمتعون بما كتب لهم حتى تجيء إليهم رسل الموت ، الملك عزرائيل ومن معه فيما كلفه الله تعالى إياه ، وكان جمع ( الرسل ) لهذا ومن قال – وهو ما نختار – أن الكتاب ما كتب عليهم من أعمالهم تنالهم بالعذاب عليها – تكون ( حتى ) تفريعية أي مبينة تفريعا العذاب من أول نزولها بإحصائها عليهم من أول لقائهم في الآخرة .
يقول لهم رسل الله تعالى التي تقبض أرواحهم:{ أينما كنتم تدعون من دون الله} أي تدعون دعاء عباده تشركون بالله بهم ، والاستفهام هنا للتعجيز والتوبيخ والتبكيت ، وتذكيرهم بسوء ما كانوا في دنياهم يفعلون .
وكقوله تعالى:{ يتوفونهم} ، أي يفيضون أرواحهم وقد توفهم نصيبهم من الحياة الدنيا وبقي ما ينالهم من حساب وعقاب في الحياة الآخرة .
ويكون جوابهم ما عبر الله عنه بقوله:{ قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} .
قالوا:{ ضلوا عنا} ، أي غابواغيبة من لا يستطيع أن يعودوا منها ، وبذلك ثبت عجزهم وثبت لهم بهذا الإقرار أنهم لا يستطيعون أن ينفعوهم أو يضروهم وفي هذا اليوم العصيب الذي استقبلهم ،{ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} الشهادة هنا إقرار وحكم على أنفسهم أنهم كانوا في حياتهم الدنيا كافرين بالحق وبالله وحسب ذلك دليلا عليهم ، وعلى استحقاقهم كل عقاب ينزله الله تعالى بهم .