/م37
قال تعالى:
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِه} أي إذا كان الأمر كما ذكر في الآيات السابقة وهو كذلك فلا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ما بأن أوجب على عباد من العبادات ما لم يوجبه أو حرم عليهم في الدين ما لم يحرمه أو عزا إلى دينه أي حكم لم ينزله على رسله ، أو كذب بآياته المنزلة عليهم بالقول أو بما هو أدل منه وهو الاستكبار عن اتباعها ، أو الاستهزاء بها ، أو تفضيل غيرها عليها بالعمل .
{ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَاب} في الكتاب وجهان أحدهما:أنه كتاب الوحي الذي أنزل على الرسل ( واللام للجنس ) وهو ظاهر قول مجاهد في تفسير نصيبهم منه: "ما وعدوا فيه من خير وشر "فإن الكتاب الإلهي هو الذي يتضمن الوعد على الأعمال أي والوعيد بدليل بيانه بالخير والشر .وهو عام يشمل جزاء الدنيا والآخرة ، وثانيهما:أنه كتاب المقادير الذي كتب الله فيه نظام العالم كله ومنها أعمال الأحياء الاختيارية وما يبعث عليها من الأسباب وما يترتب عليها من المسببات كالسعادة والشقاء والصحة والمرض إلخ ، وقد تقدم الكلام المفصل فيه في تفسير ( 6:59 ){ وعنده مفاتح الغيب} ( من تفسير سورة الأنعام وعليه ابن عباس إذ قال في تفسير النصيب من الآية:ما قدر لهم من خير وشر .وفي رواية أخرى عنه:ما كتب عليهم من الشقاء والسعادة .
وفسر محمد بن كعب القرظي النصيب بالرزق والأجل والعمل وروي أيضا عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وفسره أبو صالح والحسن بالعذاب ، ولا خلاف بين الوجهين فما وعدوا به كتاب الدين الذي هو أثبت في كتاب المقادير ، وإنما الخلاف في نفس النصيب الذي ينالهم هل هو خاص بالدنيا أم بالآخرة أم عام فيهما ؟ ورجح الأول بموافقته لمثل قوله{ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك} ( الإسراء 20 ) وقوله:{ نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} ( لقمان 24 ) وبموافقته لما تدل عليه حتى من الغاية في قوله عز وجل:
{ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُم} أي ينالهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم حتى إذا ما انتهى بانتهاء آجالهم وجاءتهم رسلنا يتوفونهم وهم الملائكة الموكلون بالتوفي أي قبض الأرواح من الأجساد{ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه} أي يسألهم رسل الموت حال كونهم يتوفونهم أي الذين كنتم تدعونهم غير الله في حال الحياة لقضاء الحاجات ودفع المضرات ؟ ادعوهم لينجوكم مما أنتم فيه الآن .
{ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} أي قالوا غابوا عنا فلا نرجو منهم منفعة .واعترفوا بأنهم كانوا كافرين بدعائهم إياهم وزعمهم أنهم عنده تعالى كأعوان الأمراء والسلاطين ووزرائهم وحجابهم .جاهلين أن الله غني عن ذلك بإحاطة علمه وكمال قدرته وان الملوك والأمراء لا يستغنون عن الأعوان والمساعدين لجهلهم بأمور الناس وعجزهم عن معرفتها وقضائها بأنفسهم وقد تقدم مثل هذا في سورة الأنعام ( 6:21- 24- 94 و95 ) وكل منهما مبتدأ بقوله تعالى:{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} فيراجعان ، ففي كل منهما ما ليس في الآخر ولا هنا من الفوائد ، وتقدم مثل هذا الاستفهام الإنكاري في آخر آية ( 144 ) من الأنعام أيضا ، وفسرنا الافتراء على الله فيها بمثل ما فسرناه هنا لمناسبة السياق وتقدم أيضا مثل هذه الشهادة من الكفار على أنفسهم في آخر آية ( 129 ) منها .