{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} إذا وجد نشاطاً في جسده ،وعزيمةً قويّة في روحه ،ليتجاوز نصف الليل في حركة العبادة ،لأن الله يريد للإنسان أن يعبده في نشاط الجسد وإقبال القلب وحيويّة الروح ،حتى لا تتحوّل العبادة إلى عبءٍ ثقيلٍ متعبٍ ،أو حالةٍ جامدةٍ لا تتجاوب الروح معها ،ولعلّ هذا ما جعل المسألة تقف عند نصف الليل أو تنقص منه ،أو تتجاوزه .
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} سواءً في الصلاة أو في غيرها ،لأنّ قراءة القرآن تدخل في المنهج التربوي الإسلامي الذي يريد اللهمن خلالهللإنسان المسلم أن يرتبط بالوحي في مفاهيم العقيدة والشريعة ،وفي حركة الدعوة والجهاد ،ليصوغ ذاته صياغةً إسلاميةً كاملة ،بحيث لا يكون في داخله شيءٌ لغير الإسلام ،ولا يكون ذلك إلا بالاستغراق في كل أجواء الوحي وآفاق العبادة ،ليرتفع به الوحي إلى رحاب الله في حركة الوجود من حوله ،وتطوف به العبادة في أجواء الروح التي تحلّق نحو الله ،لتلتقي به في عروجها إليه من خلال المعرفة الواعية المنفتحة على كل صفات الكمال والجلال والجمال في ذاته .
والمراد بترتيل القرآن تلاوته بتبيين حروفه ،وذلك بمدِّ الصوت به وتجويده بطريقةٍ خاشعةٍ متوازنةٍ لا تحمل أجواء التغنّي ،ولا ميوعة التنغيم .
وقد جاء في الدر المنثور: «أخرج العسكري في المواعظ عن علي( ع ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) سُئِل عن قول الله:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} قال: بيّنه تبييناً ولا تنثره نثر الدقل ،ولا تهذّه هذَّ الشِّعر ،قفوا عند عجائبه ،وحرّكوا به القلوب ،ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة » .
وجاء فيه: «أخرج ابن أبي شيبة عن طاوس قال: سئل رسول الله( ص ): أي الناس أحسن قراءة ؟قال: الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله » .
وعلى ضوء ذلك ،تؤكد التربية الإسلامية في قراءة القرآن على القراءة الهادئة الحلوة الخاشعة التي تفسح المجال للكلمة أن تنغرس في القلب ،وللفكرة أن تتعمق في الوجدان ،وللخشوع أن يهز الكيان كله ،حتى ليحسّ الإنسان بالجنة أمام عينيه في الآيات التي تتحدث عن الجنة ،وبالنار تقترب من وجهه حتى لتكاد تلفحه في حرارتها ،في الآيات التي تتحدث عن النار ،كما يلتقي بالله في استغراقه في معنى الألوهية في ذاته ليعيش في آفاق معاني رحمته وغضبه وقوّته وجبروته ولطفه وعظمته ،ليتمثل حضوره في كل روحه وقلبه وشعوره ،وتتحول العقيدة عنده إلى جزءٍ من حركة الذات في الفكر والإِحساس ..وهذا ما يمكن أن يوحي به الترتيل الذي يقف بك عند كل كلمة ،ويطوف بك في كل إيحاء ،وينطلق بك في كل المعاني التي تتّسع آفاقها في معنى الحياة ،فتتجاوز مدلول الكلمات .