{لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} فإنك لا تملك في طريق تكوين قناعاتهم أو إقامة الحجة عليهم ،إلا جهدك وكلمتك ،فإذا بذلتهما فقد قضيت ما عليك ،ولم يسلّطك الله على قلوبهم ،ولم يجعل مشاعرهم خاضعةً لقدرتك الذاتية ،ولم يمكِّن لك الأمر من تغيير ذهنياتهم بطريقةٍ تكوينيّةٍ قسريّة ..
هل تنفي الآية نظرية الحكم في الإسلام ؟
وربما حاول البعض من الباحثين أن يستفيدوا من هذه الآية ،أن دور النبي هو الإبلاغ والدعوة إلى الله بالكلمة الواعية المذكِّرة ،ليأخذوا حريتهم في الإيمان والكفر ،ليكون حسابهم على الله ،وليس دوره أن يكون حاكماً يتدخّل في قناعات الناس ليحاسبهم عليها ،وفي أقوالهم وأفعالهم ليضغط عليهم بوسائله الخاصة والعامة ،لينسجموا فيها مع تخطيطه الرسالي في ما يأخذ به الناس من الخطّ في حركة القول والفعل ،أو في ما يدّعونه منه .وبالتالي ،فإن دور الإسلام من خلال دور الرسول هو دور دعوةٍ ،لا دور حكومةٍ وسلطةٍ ،فليس للإسلام نظرية في الحكم الذي يتولى السلطة التنفيذية إلى جانب السلطة التشريعية .
ولكننا نلاحظ على ذلك بأنّ هذه الآية عالجت مسألة السيطرة في دور النبي كرسول ،في ما يملك من أمر الضغط الذاتي الذي يسيطر فيه على عقولهم ليغيّرها بطريقةٍ ذاتيةٍ تكوينيّة ،كما يغيّر الأشياء المادية من صورةٍ إلى صورةٍ ،ولم تعالج دوره كحاكمٍ وكوليّ للناس في خط النظام العام الذي يدير به أمر الأمة في كل جوانب حياتها ،على ضوء التخطيط الشامل للشريعة الإسلامية التي شرّعت لكل واقعةٍمهما كانت صغيرةًحكماً شرعياً ينظم لها حركتها في الحياة .ولا بدّ للباحثين الذين يريدون دراسة مسألة الحكم في الإسلام ،على مستوى اكتشاف النظرية ،أن لا يكون أسلوبهم هو اختيار ما يناسبهم من الظواهر القرآنية ،بل عليهم أن يدخلوا في دراسةٍ مقارنةٍ لكل الآيات والأحاديث وحركة التاريخ الإسلامي ،ليناقشوا ذلك كله ،لتكون النتائج في حجم الحقيقة الموضوعية المدروسة من كل جوانب البحث المحتملة فيها .
وإذا كانت الآية تؤكد أن مهمّة النبي الإبلاغ والتذكير ليكون هذا برنامجاً لكل الدعاة معه ومن بعده ،فإن معنى ذلك أنّ عليه وعليهم الاهتمام بتحسين وسائل التذكير ،وتحريك ظروفه في الخط الموصل إليه ،ثم الإيحاء إليه ،وإليهم ،بأن عليهم أن لا يتعقّدوا من النتائج السلبية التي تحصل من خلال الأسباب التي لا تقع تحت اختيارهم ،في ما يمثله الجمود الفكري ،الذي يصرّ أصحابه على الامتناع عن الخروج عنه ،أو الرواسب التقليدية التي تشد الناس إليها ،فلا يريدون أن يبتعدوا عنها ،وإلى المتغيرات الفكرية المنطلقة من خط الرسالة والرسول .إن القضية التي تحكم الدعاة إلى الله ،هي أن لا يكون ضلال الآخرين ناشئاً من تقصيرهم في الدعوة ،ومن إهمالهم للفرص المتاحة لهم ،ومن البعد عن الأخذ بأسباب الثقافات والأساليب التي يمكن أن تحتاجها الدعوة .