الشخصية الإسلامية بين الإيمان والأخلاقية الروحية
{بِالْمَرْحَمَةِ}: مصدر ميمي من الرحمة .
وهكذا تابع القرآن التأكيد على تركيز الشخصية الإسلامية على القاعدة الإيمانية من جهة ،وعلى الأخلاقية الروحية العملية من جهةٍ أخرى ،لئلاّ تكون المسألة الاجتماعية في الإسلام مجرد حالةٍ عاطفيةٍ تتمثل في عتق الرقيق وإطعام الطعام ،بل تمثل فكرةً في الذهنية ،وقاعدةً في الإلتزام وحركةً في العمل ،وهذا هو ما توحي به الآية التالية .
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ} التعبير ب «ثم » يدل على التراخي ،وليس المراد به التراخي الزماني ،بل التراخي المعنوي ،لأن الإيمان والتواصي بالصبر والمرحمة ،يمثلان البعد الأوسع في المعنى الروحي والخط الإنساني من إطعام الطعام وعتق الرقبة ،لا سيّما أن الإيمان يمثل العمق الروحي للعمل الذي يقرّب الإنسان إلى الله .
وربما كان الإيمان هو الخُلُق الإنساني الذي يوحي بالاهتمام بآلام الناس ومشاكلهم ليقود الإنسان إلى الإيمان بالله ،من موقع ارتباطه بالصفاء النفسي وبالقيم الروحية في انفتاحها على الله في ذهنيته كما ينفتح على الخير في روحه وفي حركته .أما الصبر ،فهو الأساس في معنى العطاء الذي يمثِّل البذل ،كمظهرٍ من مظاهر الانتصار على نوازع الذات التي تهدده بتهاويل الحرمان ،وأمَّا المرحمة ،فهي المضمون الداخلي للعتق وللإطعام .وإذا تحقق الصبر والمرحمة في داخل الشخصية ،فلا بدّ من أن يؤديا إلى العمل على التواصي بهما .
إن خلاصة الفكرة المحتملة في تفسير التراخي الزمني ،على تقدير إرادته ،هي أن العمل الصالح في ذاته قد يتحول إلى معنًى في الإيمان وفي التواصي بنتائجه .
وإذا أردنا أن ندخل في تفاصيل هذه الفقرة ،فإننا نجد فيها خطّاً تربوياً في بناء الشخصية الإنسانية في دائرتها الإسلامية .
بناء الشخصية الإنسانية الإسلامية
فالإيمان بالله هو الذي يعمّق في العقل وفي الروح والشعور الإحساس بعظمة الله وقدرته ووحدانيته وتدبيره ،ما يفتح للإنسان كل آفاق الحق ،ومعاني الخير ،وحركة المسؤولية ،ونهج الاستقامة ،وتوحيد العبادة ،في ما يوحي به ذلك كله من توحيد كلِّ أوضاعه وأقواله وأفعاله وتطلعاته في اتجاه العلاقة بالله والارتباط بإرادته في أوامره ونواهيه ومواقع رضاه ،فيكون سائراً في درب الله ومنهاجه في خطِّ العبودية المطلقة أمام الألوهية المطلقة .
أما الصبر ،فإنه يمثل الأساس في الإيمان ،في ما يعنيه من الالتزام بكلّ معانيه في العمق والامتداد ،وفي الانفتاح على كل فروعه الأخلاقية والعملية ،التي قد تلتقي بالحرمان المالي والنفسي الذي قد يكون مرفوضاً من ناحية النوازع الذاتية ،ما يجعل الصبر أساساً للتعامل مع النفس لإجبارها على الانطلاق مع الالتزامات الأخلاقية العملية ،والثبات على الخط في حالات الاهتزاز .
والتواصي بالصبر ،هو العمل على تثبيت هذه القيمة الإيمانية الأخلاقية في الوعي الإنساني حتى لا ينساها ،ولا يهملها ،ولا يبتعد عنها أمام الضغوط القاسية الصعبة التي قد تهزم المواقف الاجتماعية ،في ما قد يصيبها بفعل الضعف والتخاذل الذي قد يضغط على الناس ،فإذا أوصى بعضهم بعضاً بالتماسك والثبات في المواقف ،أعطى ذلك قوّةً في الشخصية الحركيّة من أجل إيجاد قاعدة ثابتةٍ للسلوك الفردي والاجتماعي القائم على الالتزام بالقضايا الحيوية الخاصة والعامة .إنها المحاولة العملية لإيجاد خطةٍ إعلاميةٍ عامةٍ في مسؤولية الجماعة عن تركيز قاعدة الثبات في الشخصية في الواقع الاجتماعي ،باستعمال مختلف الأساليب الروحية والفكرية والعاطفية ،الضاغطة على كلِّ نقاط الضعف الإنساني ،المؤثرة في تكوين ذهنيةٍ واقعيةٍ ترصد نقاط القوّة وتعمل على تحريكها في حياة الإنسان .
وأمّا المرحمة ،فهي العنصر الحيوي في كل القيم الإنسانية التي تتفاعل مع آلام الناس ومشاكلهم وحاجاتهم ،بحيث تحشد المشاعر العميقة لتثير الفكرة التي تنفتح ،وتحرك الشعور الذي يتعاطف ،وتوحي بالعمل الذي يحتوي ذلك كله في عملية مشاركةٍ في الحل ،ومبادرةٍ للتخفيف ولاحتواء كل الأجواء السلبية وتحويلها إلى أجواءٍ إيجابية .وقد أراد الله أن يجسّد الاهتمام بها ،فاعتبرها من صفاته الكمالية التي يحب لعباده أن يذكروه بها في كلمتين «الرحمن والرحيم » ،ليتأكد المضمون العقيدي الأخلاقي في استيحاء علاقة الله بهم في مواقع الرحمة ،ليمتد ذلك في حياتهم كأساسٍ للقيمة الإنسانية الكبيرة .
والتواصي بالمرحمة ،يمثِّل خطوةً تثقيفيّةً تربويّة ،في المستوى الإعلامي والعملي للسيطرة على كلِّ نوازع الأنانية الذاتية ،ومشاعر القسوة المعقّدة الناشئة من جفاف الينابيع الإنسانية في أعماقهم ،وسيطرة العناصر الوحشية في شخصياتهم ،مما قد يهدّد سلامة المجتمع .ولعل هذه الحركة الاجتماعية التي لا تنحصر في هيئةٍ معينةٍ ،بل تمتدّ إلى مسؤولية كل فرد في الجماعة ،هي التي تخلق رأياً عاماً في مسألة الرحمة ،وإحساساً عميقاً في روحية المجتمع ،بحيث تتحول من حالةٍ عاطفيةٍ فرديةٍ ،إلى قاعدة أخلاقية اجتماعية في تفكير المجتمع وإحساسه وحركته على مستوى القيمة الكبيرة .
بين الأمر بالمعروف والتواصي بالصبر والمرحمة
وقد نخرج من التأكيد على التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة ،في بناء الشخصية الباحثة في طبيعتها وفي عملها عن الحصول على رضى الله ،بفكرةٍ إسلاميةٍ على مستوى القاعدة ،وهي أن الإسلام يعمل على توجيه المسلم إلى تحمُّل المسؤولية في إشاعة القيمة الروحية الأخلاقية في الوعي الاجتماعي ،بحيث يعمل على إثارة كل مفرداتها في مسؤوليته الإعلامية كجزءٍ من مسؤوليته الدينية في الدعوة إلى الالتزام بالله في رسالته في ما قد يأخذ بعض ملامح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فلا مجال للمواقف الانعزالية عن مجريات الواقع الإنساني من حوله ،البعيدة عن الاهتمام بحركة السلبيات فيه ،سواء كان ذلك في نطاق الانحراف الفردي أو في نطاق الانحراف الاجتماعي ،بعيداً عن كل تهاويل الإثارة الرافضة للتدخل في شؤون الآخرين في ما يمارسونه من انحرافاتٍ أخلاقيةٍ بعنوان الحفاظ على الحرية الشخصية ،لأن المسألة تتصل بالسلامة الاجتماعية .وبهذا ،فإن القضية لا تختص بالصبر والمرحمة ،بل تشمل كل القيم الأخلاقية الأخرى .وربما كان التأكيد عليهما باعتبارهما عنوانين شاملين للمفردات الأخلاقية الإنسانية في مواقعها العملية ،ولمناسبتهما للجو الذي يسود السورة .وفي التعبير بكلمة «التواصي » ،بعض الإيحاء بالأسلوب الهادىء الحكيم الحميم الذي ينفذ إلى الفكر بحكمةٍ واتزانٍ ،ويسرٍ وسهولة على أساس الرفق ،لأن العنف لا يستطيع أن يغيّر القناعات والمشاعر ،بل يعقِّدها بشكلٍ كبير ،فليس هناك إلا اللين في الكلمة والأسلوب والجوّ الذي يحمل عنوان الوصية التي توحي بأكثر من معنى شعوريٍّ حميم ،في ما يحمِّل الناس بعضهم البعض المسؤولية عن بعض الأشياء التي يحبونها لأنفسهم ولغيرهم من موقع المحبة ،وعمق العلاقة ،والإيحاء بارتباطات الاهتمام بهذه الأشياء بعلاقتهم العامة والخاصة .