{ ) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ( البقرة:142 )
التفسير:
قوله تعالى:{سيقول السفهاء من الناس}؛{سيقول}: السين للتنفيس ؛وإذا دخلت على المضارع أخلصته للمستقبل ؛المضارع إذا دخلت عليه «لم » أخلصته للماضي ؛وإذا دخلت عليه السين أخلصته للمستقبل ؛وإذا كان مجرداً فهو صالح للحاضر ،والمستقبل ؛و{سيقول} تفيد أيضاً مع الاستقبال تحقيق وقوع هذا الشيء ،وتفيد أيضاً قرب هذا الشيء ؛بخلاف «سوف » فإنها تدل على المستقبل البعيد ؛و{السفهاء} جمع سفيه ؛وهو الذي لا يحسن التصرف لنفسه ؛وكل من خالف الحكمة في تصرفه فهو سفيه ؛فهؤلاء السفهاء سفهاء في دينهم ؛وقد يكونون في المال جيدين ؛وسفه الدين بينه الله سبحانه وتعالى بقوله تعالى:{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [ البقرة: 130] .
وقوله تعالى:{من الناس} بيان للسفهاء ؛وهي في موضع نصب على الحال - يعني حال كونهم من الناس قوله تعالى:{ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} في موضع نصب على أنها مقول القول ؛و{ما} اسم استفهام ؛يعني: أيّ شيء صرفهم{عن قبلتهم} أي ما يستقبلون ؛فقبلة الإنسان ما يستقبله ؛والمراد بها بيت المقدس ؛لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة صار متجهاً إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً ؛أو سبعة عشر شهراً{[174]} - يعني إما سنة وأربعة أشهر ؛أو سنة وخمسة أشهر ؛إذا كان مستقبلاً لبيت المقدس تكون الكعبة خلفه تماماً ؛لهذا يقول ابن عمر: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشأم »{[175]} .
قوله تعالى:{التي كانوا عليها} أي قبل أن يتجهوا إلى الكعبة ؛فأخبر الله عزّ وجلّ بما سيقول هؤلاء السفهاء ،وأعلمه بالرد عليهم .
قوله تعالى:{قل لله المشرق والمغرب}؛{لله}: خبر مقدم ؛و{المشرق} مبتدأ مؤخر ؛وتقديم الخبر وهو حقه التأخيريفيد الحصر ؛يعني: لله وحده المشرق ،والمغرب ؛فهو الذي يوجه إن شاء إلى المشرق ؛وإن شاء إلى المغرب ؛وإن شاء إلى الشمال ؛وإن شاء إلى الجنوب ؛وخص المشرق ،والمغرب ؛لأن منهما تطلع الشمس ،وتغرب ؛و{المشرق}: مكان شروق الشمس ،والقمر ،والنجوم ؛و{المغرب} محل غروبها .
قوله تعالى:{يهدي من يشاء} أي يدِلّ ،ويوفق ؛و{من يشاء} مفعول{يهدي}؛وهي عامة ؛ولكن كل شيء قيد بمشيئة الله فهو مقرون بالحكمة: يهدي من يشاء ممن هو أهل للهداية ؛و «المشيئة » هي الإرادة الكونية: فما شاء الله كان ؛وما لم يشأ لم يكن .
قوله تعالى:{إلى صراط مستقيم}؛«الصراط » الطريق الواسع الذي يسهل سلوكه ؛والمراد به هنا شريعة الله التي شرعها لعباده ،و «المستقيم » الذي لا اعوجاج فيه .
الفوائد:
1 من فوائد الآية: علم الله تعالى بما سيكون ؛لقوله تعالى:{سيقول السفهاء} .
2 ومنها: تحقق وقوع خبر الله عزّ وجلّ ؛لأنهم قالوا ذلك .
3 ومنها: من اعترض على حكم الله فهو سفيه .
4 ومنها: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم ،وأصحابه ،حيث أخبر الله تعالى أنه لا يعترض عليه في ذلك إلا سفيه .
5 ومنها: إعلام المرء بما يتوقع أن يكون ليستعد له ؛ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوماً أهل كتاب »؛ليكون مستعداً{[176]} .
6 ومنها: جواز تعليل الأحكام الشرعية بمقتضى الربوبية لإسكات الناس حتى لا يحصل منازعة ؛إذا قال أحد: لماذا كذا ؟قلت: الله ربك يفعل ما يشاء ،ويحكم ما يريد ؛«لماذا أحل كذا ،وحرم كذا ؟» تقول: لأنه ربك ؛«لماذا توجه الناس من المشرق إلى المغرب ؛من المغرب إلى المشرق ؛من بيت المقدس إلى الكعبة ؟» قلت: لأن ذلك بمقتضى ربوبية الله:{لله المشرق والمغرب} .
7 من فوائد الآية: أن العدو يحتج على عدوه بما يثير نعرته ،ويلزمه ؛لقوله تعالى:{عن قبلتهم}؛لم يقولوا: عن القبلة ؛كأنهم يقولون: كنتم تتولون ذلك فما الذي صرفكم عنه ؟!!وهكذا قد يثير شعور الإنسان حتى يبقى على ما هو عليه ،وكأنهم قالوا: بالأمس تختارونها ،واليوم تنكرونها ،وتنبذونها ؛فالخصم دائماً يُهيج خصمه بما يثير نعرته ؛ليوافقه فيما ذهب إليه .
8 من فوائد الآية: عموم ملك الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{لله المشرق والمغرب}؛فهو المالك سبحانه وتعالى للجهات يُصرِّف إليها العباد كيف يشاء ؛ونحن ليس علينا إلا السمع ،والطاعة ؛أينما وجهنا توجهنا ؛هذا المهم ؛لا أن تتجه إلى كذا ،أو إلى كذا ؛فالسجود لغير الله شرك ؛وكان بالنسبة للملائكة حين أمرهم الله بالسجود لآدم طاعة ،وعبادة ؛وقتل النفس بغير حقولا سيما قتل الولدمن أكبر الكبائر ؛وحين أمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح ابنه كان قربة ،وعبادة ؛فالاعتبار بطاعة الله سبحانه وتعالى .
9 من فوائد الآية: إثبات مشيئة الله ؛لقوله تعالى:{يهدي من يشاء} .
فإن قال قائل: هل في ذلك حجة للجبرية في قولهم: إن العبد مجبر على عمله ؟
فالجواب: أنه لا حجة لهم في ذلك ؛لأن الاحتجاج ببعض القرآن دون بعض كفر به ؛فالقرآن من متكلم واحد ؛فمطلقه في موضع يقيد في موضع آخر ؛بل إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تقيد القرآن ،وتبينه ،وتخصصه ؛فإذاً لا دليل في هذه الآية للجبرية إلا من نظر بعين أعور ؛لأن الأعور ينظر من جانب العين الصحيحة ؛لكن من جانب العين العوراء لا يرى ؛والواجب أن ينظر الإنسان إلى النصوص بعينين ثاقبتين ؛وليس بعين واحدة ؛وقد دلت النصوص من الكتاب ،والسنة على أن الإنسان له إرادة ،واختيار ،وقدرة ،وأضافت أعماله إليه ؛وحينئذ لا يمكن أن يكون مجبراً .
10 من فوائد الآية: أن الهداية بيد الله ؛لقوله تعالى:{يهدي من يشاء} ،ومنها: أنْ هدَى هذه الأمة إلى القبلة التي يرضاها الرسول صلى الله عليه وسلم .
11 ومنها: الثناء على هذه الأمة ؛لأنها التي على صراط مستقيم ؛لأن أول من يدخل في قوله تعالى:{يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} هؤلاء الذين تولوا عن بيت المقدس إلى الكعبة .
12 ومنها: أن معارضة الشرع كما أنه سفه ،فهو أيضاً ضلال ؛لأن الشرع هو الصراط المستقيموهو الهداية ؛وما سواه ضلال ،واعوجاج .
13 ومنها: فضيلة هذه الأمة ،حيث هداها الله إلى استقبال بيته الذي هو أول بيت وضع الناس .