القبلة
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم 142
اعلم أن القرآن كله متصل الأجزاء غير منفصل بعضها عن بعض ، وقد رأينا في الجزء الأول اتصال معانيه ومبانيه اتصالا محكما حتى يكاد يكون لكل موضوع منه أجزاؤه المتصلة ، فابتدئت سورة البقرة ببيان أقسام من تلقوا علم القرآن بعد الإشارة في ابتدائها إلى أنه الكتاب الكامل الجدير وحده بأن يختص باسم الكتاب .
وقد قسم الذين تلقوه إلى أهل الإيمان ، وأهل الكفر ، وأهل النفاق ، وصور النفاق وأهله بتشبيهات حسية تبين معانيهم النفسية ، ثم بين سبحانه قصة خلق آدم ومكانه بين العالمين من جن وانس وأنه كامل التكوين .
ثم أشار تعالى إلى النعم التي توالت على بني إسرائيل ، وتوالي كفرهم مفصلا آثامهم ، وقتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم ، وقد فصل بعض التفصيل أمر إبراهيم عليه السلام وبنيه من بعده ، وحقيقة إيمان المؤمن الجامع الذي يؤمن بكل الرسائل الإلهية والأنبياء الذين جاءوا . وقد ذكر سبحانه أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة هو وابنه إسماعيل ، وكان الأمن حول البيت إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام:{ رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر… 126} [ البقرة] .
وكان من مقتضى النسق أن يذكر عقب أخبار إبراهيم وبنيه ، والإيمان الجامع لكل الرسالات الإلهية ، أن يذكر أمرا يتعلق بالكعبة المشرفة ، هو أن تكون قبلة المسلمين الذين يتبعون ملة إبراهيم والذين سماهم إبراهيم –خليل الله- المسلمين ولذا قال تعالى:{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} .
وإن النبي بصريح هذا النص يشير إلى أنه كانت قبلته إلى الصلاة ليست هي الكعبة ، وأن الله تعالى حوله عن القبلة السابقة إلى الكعبة ، وذلك أنه عندما فرضت الصلوات الخمس عند الإسراء والمعراج أمر الله نبيه أن يتجه إلى الصخرة حول المسجد الأقصى ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يستدبر الكعبة في صلاته ، بل يتجه إلى بيت المقدس واقفا بين الركنين من الكعبة متجها إلى بيت المقدس فكان في الحقيقة متجها إلى الكعبة وبيت المقدس{[113]} .
ولما هاجر كان لا يمكنه أن يتجه إلى القبلتين ، فاتجه إلى بيت المقدس ، لأن أمر الله بالاتجاه إليه قائم ثابت ، ولم يكن من قبل أمر بالاتجاه إلى الكعبة ، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على ألا يستدبرها تكريما لها وتشريفا ، ولأنه كان يتجه إليها قبل الأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس ، وقد أخطأ من أهل الكتاب من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس ليتألف قلوب اليهود فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يشرع عبادة أو فرعا من عبادة من تلقاء نفسه ، بل إنه أمر تعبدي من الله تعالى لا يملك فيه رسوله الأمين تحويلا ولا تبديلا .
وإنه بلا شك كان ثمة ناسخ ومنسوخ ، وقد كان المنسوخ هو الصلاة إلى بيت المقدس ، والناسخ هو الصلاة متجها إلى الكعبة ، ثم إلى بيت الله الحرام .
ولم يكن الناسخ والمنسوخ ثابتين بالقرآن ، بل إن كليهما ثبت بالسنة فالمنسوخ ثبت بالسنة ، وهي عمل النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى ، وتحويل القبلة –وهو الناسخ- ثبت بالسنة أيضا ، فقد روى البخاري عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وإن أول صلاة صلاها صلاة العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد –أي قباء- فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال:أشهد بالله ، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت{[114]} .
ولقد أعلم من يصلون في قباء في صباح اليوم التالي ، روى مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت ، فقال:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا إلى الكعبة{[115]} .
ونرى من هذا أن استقبال بيت المقدس ثبت بالسنة ، وثبت التحويل أيضا بالسنة ، والقرآن ذكر آثار التحويل ، وما يقوله الناس ، وأكد التحويل ، والقرآن الذي أشار إليه الراوي في الحديث هو الذي نزل بعد أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه بالفعل ، وقد تأكد أمر القبلة بقوله تعالى:{ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره… 150} [ البقرة] .
قوله تعالى:{ سيقول السفهاء من الناس} . قال بعض المفسرين إن الاستقبال هنا موضوع موضع الماضي ، لأنهم قالوا:وإنما عبر بالمستقبل المؤكد بالسين للدلالة على دوام قولهم إذ قالوه في الماضي ، وسيقولونه في المستقبل ، فسفه القول لا ينتهي ، بل هو يمتد ويكرر ما دام السفه قائما .
وإن ظاهر اللفظ يدل على أنهم سيقولون مع ما قالوا ، وإن ذلك إخبار من الله تعالى ، وخبر الله تعالى لا يقبل التخلف ، ولم يثبت أنهم قالوا ذلك من قبل نزول الآيات ، إذ إن نزول الآيات اقترن بالتحويل ، أو بعده بقليل وإن لم يكن التحويل به بل كان بوحي من الله للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، وما كان الله تعالى ليقرئه القرآن وهو يصلي ، فإنه عند القراءة كان يقرئه تعالى فقد قال تعالى:{ لا تحرك به لسانك لتعجل به 16 إن علينا جمعه وقرآنه 17 فإذا قرأناه فاتبع قرآنه 18 ثم إن علينا بيانه 19} [ القيامة] .
وإنا لنستبعد أن يكون إنزال القرآن وإقراؤه وترتيله وهو في الصلاة يصلي ، والله على كل شيء قدير .
والسفيه هو:الخفيف العقل ، وذلك مأخوذ من قولهم:ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج ، وقد يكون السفه نوعيا ، فقد يكون متزن العقل حكيما ، ويكون في أمور أخرى سفيها ، كبعض العرب الذين كان فيهم عقل ، ولكن الإدراك الديني فيه سفه ، وكبعض أهل الكتاب ، فإنهم كانوا في أمور الدين سفهاء ، إذا تكلموا سفهوا أنفسهم .
ومن هم السفهاء الذين تكلموا في القبلة متعجبين من تحويلها ؟ قال بعضهم:المشركون ، فقد توهموا أنه عندما حولت القبلة إلى مكة أن محمدا سيرجع إلى دينهم ، وقالوا:لقد اشتاق محمد إلى مولده ، وعن قريب يرجع إلى دينكم ، وقال اليهود:لقد التبس عليه أمره ، وتحير ، واستهزأ المنافقون بالمسلمين ، وهم جميعا تساءلوا:{ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} .
الاستفهام هنا للتعجب الساخر المتهكم المستهزئ –لعنهم الله تعالى- وهم جديرون بهذا بوصف السفه ، فليست الحقائق الدينية موضع تهكم إلا من سفه نفسه ، وكان جهولا ، ومعنى{ ولاهم} أي جعلهم يعدلون صارفين النظر عن القبلة التي كانوا عليها ، وهي بيت المقدس ، فالتولية معناها العدول أو الانصراف أو الإعراض ، وإن هذا السؤال يدل على جهلهم وعتوهم في الفساد ، لأنهم نسوا أنهم يعترضون على الله تعالى .
ولقد رد الله تعالى آمرا النبي صلى الله عليه وسلم:{ قل لله المشرق والمغرب} وقد أمر الله تعالى:بأن يتولى النبي صلى الله عليه وسلم الرد عليهم ، لأن الاعتراض المتهكم كان على النبي وأصحابه ، وهم يرمونه بالتحير ، وكان الرد{ لله المشرق والمغرب} ، أي أن الله تعالى مالك الأرض شرقيها وغربيها وشماليها وجنوبيها ، وذكر الشرق والغرب ، لأن من ملكها ملك الأرض كلها ، لا فرق بين قريب وبعيد ، وإذا كان هو المالك ملكية مطلقة للأرض ، فهو يتخير لموضع قبلته ما يشاء من أرضه وليس لأحد سلطان فيما يريد ، وهو يختار من أرضه ما يراه أصلح وأقرب وأنسب ، وقد اختار البيت الحرام ، كما اختار من قبل بيت المقدس ، والبيت الحرام بناء إبراهيم وأول بيت وضع للناس ، وهو كما قال علماء الكون في وسط الأرض ، واختصه الله تعالى بأن به وحوله مناسك الحج ، وقالوا إنه منذ خلق الله تعالى مكة لم يكن بها زلزال ولا خسف ، فكأن الله تعالى قد أمنها من هذه الظروف الكونية ، كما كان الناس فيها آمنين من القتل ، وجعله سبحانه وتعالى حرما آمنا ، ويتخطف الناس من حولهم .
ولقد بين سبحانه وتعالى أن هذا الذي اختاره من قبلة هو الهداية لا يرضى به إلا من هداه الله تعالى ، فذيل الآية بقوله تعالت كلماته:{ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} أي أن الله تعالى بحكمته كان في عباده من اهتدى ، وكان في عباده من ضل وغوى ، فمن سلك الجدد ، وحارب هواه ، ووسوسة الشيطان ، فإن الله تعالى يأخذ بيده ، ويوجهه إلى صراط –أي طريق- مستقيم ، والطريق المستقيم هو أقرب الطرق للوصول إلى الغاية ، إذ إن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتي الابتداء والانتهاء .