{ )يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( البقرة:168 )
التفسير:
هذه الآية جاءت في سورة البقرة ؛وسورة البقرة مدنية ؛وقد سبق أنه جاء أيضاً مثلها:{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [ البقرة: 21]؛وقد ذكر كثير من المؤلفين في أصول التفسير أن الغالب في السور المدنية أن يكون الخطاب فيها ب{يا أيها الذين آمنوا} [ البقرة: 104]؛لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة صارت المدينة بلاد إسلام ؛وهي أول بلد إسلامي يحكمه المسلمون في هذه الرسالة ؛فصار التوجه إليها بالخطاب ب{يا أيها الذين آمنوا}؛لكنها ليست قاعدة ؛ولكنها ضابط يخرج منه بعض المسائل ؛لأن من السور المدنية فيها{يا أيها الناس} ،كسورة النساء ،وسورة الحجرات .
قوله تعالى:{يا أيها الناس}؛{الناس} أصلها: الأناس ؛وحذفت الهمزة منها تخفيفاً ؛والمراد ب{الناس} بنو آدم .
قوله تعالى:{كلوا مما في الأرض}؛«مِن » يحتمل أن تكون لبيان الجنس ؛ويحتمل أن تكون للتبعيض ؛لكن كونها لبيان الجنس أولى ؛ويرجحه قوله تعالى:{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [ البقرة: 29]؛أي كلوا من هذا ما شئتم ؛ويشمل كل ما في الأرض من أشجار ،وزروع ،وبقول ،وغيرها ؛ومن حيوان أيضاً ؛لأنه في الأرض .
قوله تعالى:{حلالًا}: منصوبة على الحال من «ما »؛أي كلوه حال كونه حلالاً - أي محللاً - ؛فهي بمعنى اسم المفعول ؛و{طيباً} حال أخرى - يعني: حال كون طيباً - مؤكد لقوله تعالى:{حلالًا}؛ويحتمل أن يكون المراد ب «الحلال » ما كان حلالاً في كسبه ؛وب «الطيب » ما كان طيباً في ذاته ؛لقول الله سبحانه وتعالى:{وأحل الله البيع} [ البقرة: 275] ،وقوله تعالى في الميتة ،ولحم الخنزير:{فإنه رجس} [ الأنعام: 145]؛وهذا أولى ؛لأن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التوكيد .
قوله تعالى:{ولا تتبعوا خطوات الشيطان}؛{لا} ناهية ؛و «اتباع الخطوات » معناه: أن يتابع الإنسان غيره في عمله ،كمتبع الأثر الذي يتبع أثر البعير ،وأثر الدابة ،وما أشبهها ؛و{خطوات الشيطان} أي أعماله التي يعملها ،ويخطو إليها ؛وهو شامل للشرك فما دونه ؛فإن الشيطان يأمر بالفحشاء ،والمنكر ؛قال تعالى:{إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على ما لا تعلمون} [ البقرة: 169] ،وقال تعالى:{ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} [ النور: 21]؛فكل شيء حرمه الله فهو من خطوات الشيطان سواء كان عن استكبار ،أو تكذيب ،أو استهزاء ،أو غير ذلك ؛لأنه يأمر به ،وينادي به ،ويدعو إليه ؛و{الشيطان} من: شطن ؛فالنون أصلية ؛وليس من «شاط » ؛لأنه مصروف في القرآن ؛قال تعالى:{وما هو بقول شيطانٍ رجيمٍ} [ التكوير: 25]؛ولو كان من «شاط » لكانت النون زائدة ،والألف زائدة ؛فيكون ممنوعاً من الصرف ؛إلا أنه قد يقال: لا يمنع من الصرف ؛لأن مؤنثه: شيطانة ؛والذي يمنع من الصرف إذا كان مؤنثه «فعلى » ،ك«سكران » ،و«سكرى » ؛ومعنى «شطن » بعُد ؛فسمي الشيطان بذلك لبعده عن رحمة الله عز وجل .
قوله تعالى:{إنه لكم عدو مبين}؛محل هذه الجملة استئنافية تعليل لما قبلها ؛والعدو ضد الصديق ؛وإن شئت فقل: ضد الولي ؛لقوله تعالى:{لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}؛وقد حده الفقهاء - رحمهم الله - بقولهم: من سره مساءة شخص ؛أو غمه فرحه فهو عدو ؛فالعدو من يحزن لفرحك ،ويُسَرّ لحزنك .
وقوله تعالى:{مبين} أي ظاهر العداوة ؛وقد كان عدواً لأبينا آدم ( ص ) ؛فما زالت عداوته إلى قيام الساعة ؛وقال تعالى عنه:{لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلنَّهم ولأمنينَّهم ولآمرنَّهم فليبتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنَّهم فليغيرنَّ خلق الله} [ النساء: 118 ،119] ،ثم قال تعالى:{ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً} [ النساء: 119] .
الفوائد:
1من فوائد الآية: إظهار منة الله على عباده ،حيث أباح لهم جميع ما في الأرض من حلال طيب ؛لقوله تعالى:{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} .
2ومنها: أن الأصل فيما في الأرض الحل والطيب حتى يتبين أنه حرام .
3ومنها: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ؛لقوله تعالى:{يا أيها الناس}؛وهم داخلون في هذا الخطاب ؛ومخاطبتهم بفروع الشريعة هو القول الصحيح ؛ولكن ليس معنى خطابهم بها أنهم ملزمون بها في حال الكفر ؛لأننا ندعوهم أولاً إلى الإسلام ،ثم نلزمهم بأحكامه ؛وليس معنى كونهم مخاطبين بها أنهم يؤمرون بقضائها ؛والدليل على الأول قوله تعالى:{وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} [ التوبة: 54]؛فكيف نلزمهم بأمر لا ينفعهم ؛هذا عبث ،وظلم ؛وأما الدليل على الثاني فقوله تعالى:{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [ الأنفال: 38]؛ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ممن أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات حال كفره ؛والفائدة من قولنا: إنهم مخاطبون بها – كما قال أهل العلم – زيادة عقوبتهم في الآخرة ؛وهذا يدل عليه قوله تعالى: ( إلا أصحاب اليمين* في جنات يتساءلون* عن المجرمين* ما سلككم في سقر ،قالوا لم نك من المصلين* ولم نك نطعم المسكين ،وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} [ المدثر: 3947] .
4ومن فوائد الآية: تحريم اتباع خطوات الشيطان ؛لقوله تعالى:{ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}؛ومن ذلك الأكل بالشمال ،والشرب بالشمال ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يأكل أحدكم بشماله ،ولا يشرب بشماله ؛فإن الشيطان يأكل بشماله ،ويشرب بشماله »{[230]} ؛ومن اتباع خطوات الشيطان القياس الفاسد ؛لأن أول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس ؛لأن الله لما أمره بالسجود لآدم عارض هذا الأمر بقياس فاسد: قال:{أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [ ص~: 38]؛يعني: فكان الأولى هو الذي يسجد ؛فهذا قياس في مقابلة النص ؛فاسد الاعتبار ؛ومن اتباع خطوات الشيطان أيضاً الحسد ؛لأن الشيطان إنما قال ذلك حسداً لآدم ؛وهو أيضاً دأب اليهود ،كما قال تعالى:{ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم} [ البقرة: 109]؛وكل خُلق ذميم ،أو عمل سوء ،فإنه من خطوات الشيطان .
5ومن فوائد الآية: تأكيد عداوة الشيطان لبني آدم ؛لقوله تعالى:{إنه لكم عدو مبين}؛فإن الجملة مؤكدة ب «إن » .
6ومنها: ظهور بلاغة القرآن ؛وذلك لقرن الحُكم بعلته ؛فإن قرن الحكم بعلته له فوائد ؛منها معرفة الحكمة ؛ومنها زيادة طمأنينة المخاطب ؛ومنها تقوية الحكم ؛ومنها عموم الحكم بعموم العلةيعني القياس؛مثاله قوله تعالى:{قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} [ الأنعام: 145]؛فإن مقتضى هذا التعليل أن كل ما كان نجساً فهو محرم .
7ومنها: التحذير الشديد من اتباع خطوات الشيطان ؛لقوله تعالى:{إنه لكم عدو مبين}؛وما أظن أحداً عاقلاً يؤمن بعداوة أحد ويتبعه أبداً .