{ )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة:174 )
التفسير:
قوله تعالى:{إن الذين يكتمون ...}: جملة مكونة من{إن} الدالة على التوكيد ؛و{الذين} اسمها ؛و{أولئك}: «أولاء » مبتدأ ثانٍ ؛وجملة:{ما يأكلون} خبر المبتدأ الثاني ؛والجملة من المبتدأ ،والخبر خبر{إن} .
وقوله تعالى:{يكتمون ما أنزل الله} أي يخفون ؛{من الكتاب}: «أل » إما أن تكون للعهد ؛أو للجنس ؛فإن قلنا: «للعهد » فالمراد بها التوراة ؛ويكون المراد ب{الذين يكتمون} اليهود ؛لأنهم كتموا ما علموه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ؛وإن قلنا: إن «أل » للجنس ،شمل جميع الكتب: التوراة ،والإنجيل ،وغيرها ؛ويكون{الذين يكتمون} يشمل اليهود ،والنصارى ،وغيرهما ؛وهذا أرجح لعمومه .
وقوله تعالى:{ما أنزل الله من الكتاب} أي على رسله ؛فإن الله سبحانه وتعالى يقول:{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب} [ الحديد: 25]؛فكل رسول فإن معه كتاباً من الله عز وجل يهدي به الناس .
قوله تعالى:{ويشترون به} يعني يأخذون بما أنزل الله ؛ويجوز أن يكون الضمير عائداً على الكتم ؛يعني يأخذون بهذا الكتم .
قوله تعالى:{ثمناً قليلاً}: هذا الثمن إما المال ؛وإما الجاه ،والرياسة ؛وكلاهما قليل بالنسبة لما في الآخرة .
قوله تعالى:{أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار}: الاستثناء هنا مفرغ ؛والإشارة للبعيد لبعد مرتبتهم ،وانحطاطها ،والتنفير منها .
قوله تعالى:{ولا يكلمهم الله يوم القيامة} يعني لا يكلمهم تكليم رضا ؛فالنفي هنا ليس نفياً لمطلق الكلام ؛ولكنه للكلام المطلقالذي هو كلام الرضا ؛{ولا يزكيهم} أي لا يثني عليهم بخير .
قوله تعالى:{ولهم عذاب أليم}؛«فعيل » هنا بمعنى مفعِل ؛و«مؤلم » أي موجع ؛والعذاب هو النكال ،والعقوبة .
الفوائد:
1من فوائد الآية: وجوب نشر العلم ؛لقوله تعالى:{إن الذين يكتمون}؛ويتأكد وجوب نشره إذا دعت الحاجة إليه بالسؤال عنه ؛إما بلسان الحال ؛وإما بلسان المقال .
2ومنها: أن الكتب منزلة من عند الله ؛لقوله تعالى:{ما أنزل الله من الكتاب} .
3ومنها: علو الله عز وجل ؛لقوله تعالى:{ما أنزل الله}؛فإن لازم النزول من عنده أن يكون سبحانه وتعالى عالياً .
4ومنها: أن هذا الوعيد على من جمع بين الأمرين:{يكتمون} ،و{يشترون}؛فأما من كتم بدون اشتراء ؛أو اشترى بدون كتم فإن الحكم فيه يختلف ؛إذا كتم بدون اشتراء فقد قال الله سبحانه وتعالى:{إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [ البقرة: 159]؛وهذا يدل على أن كتمان ما أنزل الله من كبائر الذنوب ؛ولكن لا يستحق ما ذُكر في الآية التي نحن بصدد تفسيرها ؛وأما الذين يشترون بما أنزل الله من الكتاب ثمناً قليلاً بدون كتمان فقد قال الله تعالى:{من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [ هود: 15 ،16] .
فالناس في كتمان ما أنزل الله ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يكتم العلم بخلاً به ،ومنعاً لانتفاع الناس به .
والقسم الثاني: من يكتم العلم ،ولا يبينه إلا لغرض دنيوي من مال ،أو جاه ،أو رئاسة ،أو غير ذلك .
والقسم الثالث: من يكتم العلم بخلاً به ،ولا يبينه إلا لغرض دنيوي ؛فيجمع بين الأمرين ؛وهذا شر الأقسام ؛وهو المذكور في الآية التي نحن بصدد تفسيرها ؛وقد تبين عقوبة كل واحد من هذه الأقسام فيما سبق .
أما من أظهر العلم لله ،وتعلم لله ،فهذا هو خير الأقسام ؛وهو القسم الرابع الذي يبين بلسانه ،وحاله ،وقلمه ،ما أنزل الله عز وجل ؛والذي يكتم خوفاً إذا كان سيبين في موضع آخر فلا بأس ؛أما الذي يكتم مطلقاً فهذا لا يجوز ؛فيجب أن يبين ولو قُتلإذا كان يتوقف بيان الحق على ذلك،كما جرى لبعض أهل السنة الذين صبروا على القتل في بيانها لتعينه عليهم .
5ومن فوائد الآية: أن متاع الدنيا قليلولو كثر؛لقوله تعالى:{ويشترون به ثمناً قليلاً} .
6ومنها: إطلاق المسبَّب على السبب ؛لقوله تعالى:{أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} هم لا يأكلون النار ؛ولكن يأكلون المال ؛لكنه مال سبب للنار .
7ومنها: إقامة العدل في الجزاء ؛لقوله تعالى:{أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار}؛فجعل عقوبتهم من النار بقدر ما أكلوه من الدنيا الذي أخذوه عوضاً عن العلم .
8ومنها: إثبات كلام الله عز وجل ؛لقوله تعالى:{ولا يكلمهم الله}؛لأنه لو كان لا يتكلم لا معهم ،ولا مع غيرهم ،لم يكن في نفي تكليمه إياهم فائدة ؛فنفيه لتكليمه هؤلاء يدل على أنه يكلم غيرهم ؛وقد استدل الشافعيرحمه اللهبقوله تعالى:{كلا إنهم} [ المطففين: 15] أي الفجار{عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [ المطففين: 15] برؤية الأبرار له ؛لأنه ما حجب هؤلاء في حال السخط إلا لرؤية الأبرار في حال الرضا ؛إذ لو كان لا يُرى مطلقاً لم يكن لذكر حجب الفجار فائدة ؛وكلام الله عز وجل هو الحرف ،والمعنى ؛فالله سبحانه وتعالى يتكلم بكلام بحروف ،وصوت ؛وأدلة هذا ،وتفصيله مذكور في كتب العقائد .
9ومن فوائد الآية: أن الكلام من صفات الله الفعلية المتعلقة بمشيئته ؛لقوله تعالى:{ولا يكلمهم الله يوم القيامة}؛لأن تخصيصه بيوم القيامة يدل على أنه يتعلق بمشيئته ؛وهذه هي الصفات الفعلية ؛لكن أصل الكلام صفة ذاتية ؛لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلماً .
10ومنها: إثبات يوم القيامة .
11ومنها: أن يوم القيامة يُزَكى فيه الإنسان ؛وذلك بالثناء القولي ،والفعلي ؛فإن الله يقول لعبده المؤمن حين يقرره بذنوبه: «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم »{[240]} ؛وأما الفعلي فإن علامة الثناء أنه يعطى كتابه بيمينه ،ويَشهد الناسُ كلهم على أنه من المؤمنين ؛وهذه تزكية بلا شك .
12ومنها: غلظ عقوبة هؤلاء بأن الله تعالى لا يكلمهم يوم القيامة ،ولا يزكيهم ؛والمراد كلام الرضا ؛وأما كلام الغضب فإن الله تعالى يكلم أهل النار ،كما قال تعالى:{اخسئوا فيها ولا تكلمون} .
13ومنها: إثبات الجزاء ؛لقوله تعالى:{ولهم عذاب أليم} .
14ومنها: أن عذاب هؤلاء الكافرين عذاب مؤلم ألماً نفسياً ،وألماً جسمانياً ؛فأما الألم النفسي فدليله قوله تعالى:{قال اخسئوا فيها ولا تكلمون}؛فهذا من أبلغ ما يكون من الإذلال الذي به الألم النفسي ؛وأما الألم البدني فدليله قول الله تعالى:{كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً} [ النساء: 56] ،وقوله تعالى:{وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم} [ محمد: 15] ،وقوله تعالى:{يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق} [ الحجر: 21 ،22] .