{ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) ( البقرة:175 )
التفسير:
قوله تعالى:{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}: المشار إليهم:{الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً} [ البقرة: 174]؛و{اشتروا} بمعنى اختاروا ؛ولكنه عبر بهذا ؛لأن المشتري طالب راغب في السلعة ؛فكأن هؤلاءوالعياذ باللهطالبون راغبون في الضلالة بمنزلة المشتري ؛و{الضلالة} هنا كتمان العلم ؛فإنه ضلال ؛وأما «الهدى » فهو بيان العلم ونشره .
وقوله تعالى:{بالهدى}: الباء هنا للعوض ؛ويقول الفقهاء: إن ما دخلت عليه الباء هو الثمن ؛سواء كان نقداً ،أم عيناً غير نقد ؛فإذا قلت: اشتريت منك ديناراً بثوب ،فالثمن الثوب ؛وقال بعض الفقهاء: الثمن هو النقد مطلقاً ؛والصحيح الأول ؛والثمن الذي دفعه هؤلاء هو الهدى ؛فهم دفعوا الهدى - والعياذ بالله - لأخذ الضلالة .
قوله تعالى:{والعذاب بالمغفرة}؛فهم أيضاً اشتروا العذاب بالمغفرة ؛ولو أنهم بينوا ،وأظهروا العلم لَجُوزوا بالمغفرة ؛ولكنهم كتموا ،فجُوزوا بالعذاب .
قوله تعالى:{فما أصبرهم على النار}؛«ما » تعجبية مبتدأ ؛وجملة{أصبرهم} خبرها ؛والمعنى: شيء عظيم أصبرهم ؛أو ما أعظم صبرهم على النار ؛وهذا التعجب يتوجه عليه سؤالان:
السؤال الأول: أهو تعجب من الله أم تعجيب منه ؛بمعنى: أيرشدنا إلى أن نتعجبوليس هو موصوفاً بالعجب ؛أو أنه من الله؟
السؤال الثاني: أن قوله:{فما أصبرهم} يقتضي أنهم يصبرون ،ويتحملون مع أنهم لا يتحملون ،ولا يطيقون ؛ولهذا يقولون لخزنة جهنم:{ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} [ غافر: 49]؛وينادون:{يا مالك ليقض علينا ربك} [ الزخرف: 77] أي ليهلكنا ؛ومن قال هكذا فليس بصابر ؟
والجواب عن السؤال الأول:وهو أهو تعجب ،أو تعجيب: فقد اختلف فيه المفسرون ؛فمنهم من رأى أنه تعجب من الله عز وجل ؛لأنه المتكلم به هو الله ؛والكلام ينسب إلى من تكلم به ؛ولا مانع من ذلك لا عقلاً ،ولا سمعاًأي لا مانع يمنع من أن الله سبحانه وتعالى يعجب ؛وقد ثبت لله العجب بالكتاب ،والسنة ؛فقال الله تعالى في القرآن:{بل عجبتُ ويسخرون} [ الصافات: 12] بضم التاء ؛وهذه القراءة سبعية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛والتاء فاعل يعود على الله سبحانه وتعالى المتكلم ؛وأما السنة ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه »{[241]} ؛وعلى هذا فالعجب لله ثابت بالكتاب ،والسنة ؛فلا مانع من أن الله يعجب من صبرهم ؛فإذا قال قائل: العجب يدل على أن المتعجب مباغَت بما تعجب منه ؛وهذا يستلزم أن لا يكون عالماً بالأمر من قبلوهو محال على الله؟
فالجواب: أن سبب العجب لا يختص بما ذكر ؛بل ربما يكون سببه الإنكار على الفاعل ،حيث خرج عن نظائره ،كما تقول: «عجبت من قوم جحدوا بآيات الله مع بيانها ،وظهورها » ؛وهو بهذا المعنى قريب من معنى التوبيخ ،واللوم ؛ومن المفسرين من قال: إن المراد بالعجب: التعجيب ؛كأنه قال: اعجب أيها المخاطب من صبرهم على النار ؛وهذا وإن كان له وجه لكنه خلاف ظاهر الآية .
وأما الجواب عن السؤال الثاني:- وهو كيف يتعجب من صبرهم مع أنهم لم يصبروا على النار – فقال أهل العلم: إنهم لما صبروا على ما كان سبباً لها من كتمان العلم صاروا كأنهم صبروا عليها ،مثلما يقال للرجل الذي يفعل أشياء ينتقد فيها: ما أصبرك على لوم الناس لك مع أنه ربما لم يلوموه أصلاً ؛لكن فعل ما يقتضي اللوم ؛يصير معنى:{ما أصبرهم على النار} أنهم لما كانوا يفعلون هذه الأفعال الموجبة للنار صاروا كأنهم يصبرون على النار ؛لأن الجزاء من جنس العمل ،كما تفيده الآيات الكثيرة ،فيعبر بالعمل عن الجزاء ؛لأنه سببه المترتب عليه ؛و{النار} هي الدار التي أعدها الله سبحانه وتعالى للكافرين والظالمين ؛لكن الظلم إن كان ظلم الكفر فهم مخلدون فيها ؛وإن كان ظلماً دون الكفر فإنهم مستحقون للعذاب بحسب حالهم .
الفوائد:
1من فوائد الآية: أن سبب ضلال هؤلاء وكتمانهم الحق أنهم لم يريدوا الهدى ؛وإنما أرادوا الضلال والفسادوالعياذ بالله؛لقوله تعالى:{أولئك الذين اشتروا ...} إلخ .
2ومنها: الرد على الجبرية ؛لإضافة الفعل إلى الفاعل .
3ومنها: أن كتمان العلم أو بيانه لغرض من الدنيا من الضلال ؛وذلك ؛لأنه جاهل بما يجب على العالم في علمه من النشر ،والتبليغ ،ولأنه جهل على نفسه ،حيث منعها هذا الخير العظيم في نشر العلم ؛لأن من أفضل الأعمال نشر العلم ؛فإنهأعني العلمليس كالمال ؛المال يفنى ؛والعلم يبقى ؛أرأيت الآن في الصحابة رضي الله عنهم أناس أغنياء أكثر غنًى من أبي هريرة رضي الله عنه وذِكر أبي هريرة بين الخاص والعام الآن أكثر ،والثواب الذي يأتيه مما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث أكثر وأعظم ؛ثم أرأيت منزلة الإمام أحمد بن حنبل ،ونحوه من الأئمة مع من في عهدهم من الخلفاء ،والوزراء ،والأغنياء ،هل بقي ذكرهم ،كما بقي ذكر هؤلاء الأئمة ؟!!فكتمان العلم لا شك أنه ضلالة في الإنسان ،وجهالة .
4ومن فوائد الآية: أن عقوبة الله لهم ليست ظلماً منه ؛بل هم الذين تسببوا لها ،حيث اشتروا الضلالة بالهدى ؛والله عز وجل ليس بظلام للعبيد .
5ومنها: أن نشر العلم ،وإظهاره ،وبيانه من أسباب المغفرة ؛لأنه جعل لهم العذاب في مقابلة الكتمان ،واختيارهم العذاب على المغفرة ،والضلالة على الهدى ؛فدل ذلك على أن نشر العلم من أسباب مغفرة الذنوب ؛كما أن الذنوب أيضاً تحول بين الإنسان ،والعلم ،فكذلك كتم العلم يحول بين الإنسان ،والمغفرة ؛وقد استدل بعض العلماء بأن الذنوب تحول بين الإنسان ،والعلم بقوله تعالى:{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً * واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} [ النساء: 105 ،106]؛فقال تعالى:{لتحكم} ،ثم قال تعالى:{واستغفر الله}؛فدل هذا على أن الاستغفار من أسباب فتح العلموهو ظاهر؛وبقوله تعالى:{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به} [ المائدة: 13]؛لأن الذنوبوالعياذ باللهرين على القلوب ،كما قال تعالى:{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [ المطففين: 14]؛فإذا كانت ريناً عليها فإن الاستغفار يمحو هذا الرين ،وتبقى القلوب نيرة مدركة واعية .
6ومن فوائد الآية: إثبات العجب لله سبحانه وتعالى ؛لقوله تعالى:{فما أصبرهم على النار}على أحد الاحتمالين؛وهو من الصفات الفعلية ؛لأنه يتعلق بمشيئته ؛وكل صفة من صفات الله تتعلق بمشيئته فهي من الصفات الفعلية .
فإذا قال قائل: ما دليلكم على أن العجب يتعلق بمشيئته ؟
فالجواب: أن له سبباً ؛وكل ما له سبب فإنه متعلق بالمشيئة ؛لأن وقوع السبب بمشيئة الله ؛فيكون ما يتفرع عنه كذلك بمشيئة الله .
7ومنها: توبيخ هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله ؛لقوله تعالى:{فما أصبرهم على النار}؛وكان الأجدر بهم أن يتخذوا وقاية من النار لا وسيلة إليها .
8ومنها: الإشارة إلى شدة عذابهم ،كما يقال في شخص أصيب بمرض عظيم: «ما أصبره على هذا المرض » ،أي أنه مرض عظيم يؤدي إلى التعجب من صبر المريض عليه .