وإن أولئك الذين كتموا الحق الذي أنزله تعالى لغرض أو لمال أو لجاه ، أو لرشوة وسحت أو لمنصب يريدونه أو يرجعونه ، هؤلاء تركوا الهداية وطلبوا الضلالة ، ولذا قال تعالى مشيرا إليهم:{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة} . الإشارة في الأولى إشارة للذين اتصفوا بكتمان الحق وقت الحاجة إلى بيانه ، وإن ذلك الوصف هو سبب الحكم الذي تقرر عليهم ، وهو أنهم اشتروا الضلالة بالهدى ، أي تركوا الحق ، وهو المبيع الثمين لأنه هدى الله تعالى وهو الطريق ، وهو الإعلام بالحق المبين تركوه ، وباعوه بثمن حقير في ذاته بالنسبة لمقابله ، فهو الضلالة ، في مقابل الهداية ، قد تركوا الطريق المستقيم وهو الهداية التي منحهم الله تعالى بحكم الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، تركوا ذلك الطريق المستقيم إلى متعرجات الشيطان فضلوا في صحراء هذا الوجود ضلالا بعيدا .
وكما استبدلوا بالهداية الضلالة استبدلوا أيضا العذاب بالمغفرة ، أي سلكوا الطريق الموصل إلى العذاب وتركوا الطريق الموصل إلى مغفرة الله تعالى ، وقد عبر الله تعالى بالعذاب ، والظاهر أنه أراد سببه والطريق الموصل إليه ، إشارة إلى أنه موصل إليه لا محالة ، والمغفرة هي الثواب والنعيم المقيم الذي أعده الله تعالى للمهتدين ، وعبر عن الثواب بالمغفرة ، لأن المغفرة دليل الرضا أولا ، وللإشارة إلى أن من يعمل صالحا يغفر الله له ما عساه يكون من سيئات ، لأن الحسنات يذهبن السيئات ثانيا ، ولأن من ينال غفران الله تعالى من المقربين .
وقد أكد الله تعالى دوام عذابهم بقوله تعالت كلماته:{ فما أصبرهم على النار} أي أنهم يأخذون في أسباب الجحيم ، ودخول النار والبقاء ، ويقال في مثل من يكون في حالهم ممن يسيرون سيرهم ، ما أصبرهم على النار وهو من قبيل التهكم كما يقول القائلون لمن يرتكب أسباب العقوبة من حد أو تعزير:ما أصبرك على السياط تكوي ظهرك كيا ، لأنه يتخذ أسبابها ، وقد يقال إن الصبر بمعناه اللغوي وهو الحبس كقوله تعالى:{ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . . . 28} [ الكهف] ، ويكون المعنى ما أطول وأدوم حبسهم على النار يصلونها .
روي عن الكسائي أنه قال:أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه ، فوجبت اليمين على أحدهما فحلف فقال له صاحبه:ما أصبرك على الله أي ما أجرأك عليه . والمعنى على ذلك:ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها . . اللهم قنا عذاب النار ، وألهمنا الصبر على النطق بالحق إنك أنت الرحمان الرحيم .