ثم قال فيهم:{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله الخ أو المجزيون عليه بما ذكرهم الذين اشتروا الضلالة بالهدى في الدنيا .فأما الهدى فهو كتاب الله وشرعه:{ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} ( البقرة:2 ) وأما الضلالة فهي العماية التي لا يهتدي بها الإنسان لمقصده ، وتكون باتباع الهوى وآراء الناس في الدين ، وليس لأحد أن يقول في الدين برأيه .وهذه الآراء لا ضابط لها ولا حد ، فأهلها في خلاف وشقاق دائم كما سيأتي فمن أجاز لنفسه اتباع أقوال الناس في الاعتقاد والعبادة وأحكام الحلال والحرام فقد ترك الهدى الواضح المبين الذي لا خلاف فيه ، وصار إلى تيه من الآراء مشتبه الأعلام ، ويضل به الفهم ، ولا الذي يهتدي فيه الوهم ، وذلك عين اتباع الهوى ، وشراء الضلالة بالهدى ، فإن الله هو وحده الذي يبين حدود العبودية ، وحقوق الربوبية ، فلا هداية إلا بفهم ما جاء به رسله عنه .
{ والعذاب بالمغفرة} أي واشتروا العذاب بالمغفرة في الآخرة ، وهذا أثر ما قبله فإن متبع الهدى هو الذي يستحق المغفرة لما يفرط منه وما يلم هو به من السوء ، ومتبع الضلالة هو المستحق للعذاب ومن دعي إلى الحق يعرف هذا ، فإذا هو اختار الضلالة بعد صحة الدعوة وقيام الحجة فقد اشترى العذاب بالمغفرة ، وكان هو الجاني على نفسه ، إذ استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، غرورا بالعاجل ، واستهانة بالآجل .
{ فما أصبرهم على النار} أي أن صبرهم على عذاب النار الذي تعرضوا له مثار العجب ، ذلك بأن عملهم الموصوف في الآيتين هو العمل الذي يسوقهم إلى عذاب النار .فتهوكهم فيه إنما هو تهوك{[61]} من لا يبالي به ، كأنه مما يطيقه ويمكنه الصبر عليه ، فلا يترك ضلالته اتقاء له .وصيغة التعجب قالوا يراد بها تعجيب الناس من شأنهم إذ لا نتصور حقيقة التعجيب من الله تعالى إذ لا شيء غريب عنده عز وجل ولا مجهول سببه ، وهو العالم بظواهر الأشياء وخوافيها ، وحاضرها عنده كماضيها وآتيها{ لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض} ( سبأ:3 ) والصبر على النار غير واقع منهم فيتعجب منه حالا ، ولا متوقع فيتعجب منه مآلا ، فلا صبر هنالك يتعجب منه ، وإنما حالهم في تهوكهم وانهماكهم في العبث بدين الله هو الذي جعل موضع التعجب للتنفير والتشنيع عليهم ، ولكن صح في الحديث إسناد العجب إلى الله تعالى وطريقة السلف في مثله أن يقال عجب يليق به ليس كعجب البشر مما يكبرون أمره ويجهلون سببه ، ويتأوله الأكثرون بالرضى من المتعجب منه .
وقال الأستاذ الإمام في العبارة ما معناه مبسوطا:إن الكلام في أكلهم النار والتعجب من صبرهم على النار هو تصوير لحالهم وتمثل لمآلهم .أما الثاني فظاهر وأما الأول فيتجلى لك إذا تمثلت حال قوم عندهم كتاب يؤمنون به أنه من الله ، ويؤمنون بقاء الله ، وقد كتموا ما أنزل الله فيه بالتحريف والتأويل كما فعل اليهود بكتمان وصف الرسول ، وهم يقارعون بالدلائل العقلية ، ويذكرون بآيات الله وأيامه ، فيشعرون بجاذبين متعاكسين:جاذب الحق الذي عرفوه ، وجاذب الباطل الذي ألفوه ، وذلك يحدث لهم هزة وتأثيرا ، وهذا يحدث لهم استكبارا ونفورا ، وقد غلب عقولهم ما عرفوا ، وغلب قلوبهم ما ألفوا ، فثبتوا على ما حرفوا وانحرفوا ، وصاروا إلى حرب عوان ، بين العقل والوجدان ، يتصورون الخطر الآجل ، فينغص عليهم التلذذ بالعاجل ، ويتذوقون حلاوة ما هم فيه ، فيؤثرونه على ما سيصيرون إليه .أليس هذا الشعور بخذل الحق ونصر الباطل ، واختيار ما يفنى على ما يبقى ، نارا تشب في الضلوع ؟ أليس ما يأكلون من ثمن الحق ضريعا لا يسمن ولا يغني من جوع ؟ بل فإن عذاب الباطن أشد من عذاب الظاهر ، كما يؤمئ إليه قول الشاعر:
دخول النار للمهجور خير *** من الهجر الذي هو يتقيه
لأن دخوله في النار أدنى *** عذابامن دخول النار فيه
فهذا تأويل وجيه لأكلهم النار وللتعجب من صبرهم على النار ، نزل به الوحي الإلهي على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وأن أرباب الأرواح العالية ، والمرائي الصافية ، تتمثل لهم المعاني بأتم ما تتمثل به سائر الأرواح المحجوبة بالظواهر ، المخدوعة بالمظاهر ، التي يصرفها الاشتغال بالحس ، من معرفة مراتب النفس .فلا غرو إذا تمثلت للنبي صلى الله عليه وسلم حال أولئك الجاحدين المعاندين الذين اشتروا الضلالة بالهدى ، واتخذوا إلههم الهوى ، وواثبوا الحق يقارعهم ويقارعونه ، وناصبوا الدليل ينازعهم وينازعونه ، بحال الذي يقتحم في النار ، ويكره نفسه على الاصطبار ، كما يتمثل ذلك الثمن القليل الذي باعوا به الحق نارا يزدردونها ، إذ كان آلاما يتحملونها ، فمكابرة البرهان أشد العذاب عند العقلاء ، ومحاربة القلب ( الضمير والوجدان ) أوجع الآلام عند الفضلاء ، فالعاقل يستطيع أن يمنع نفسه من أكثر اللذات الحسية ، ولكنه لا يستطيع أن يمنع عقله العلم وذهنه الفهم ، فقد قيل ( لديوجين ) لا تسمع ، فسد أذنيه ، فقال له:لا تبصر ، فأغمض عينيه ، فقيل له لا تذق فقبل فقيل له لا تفهم فقال لا أقدر .فلا غرو إذا مثلت للنبي حال أولئك المكابرين للحق بما ذكر وأظهرته البلاغة بصيغة التعجب تارة وبصورة أكل النار تارة .