قال تعالى في تعليل ما ذكر:{ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق} أي ذلك الحكم الذي تقرر في شأنهم هو سبب الكتاب جاء بالحق والحق لا يغالب ولا يقاوى ، فمن غالبه غلب ، ومن خذله خذل .تم قال:{ وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} أي وإن الذين اختلفوا في الكتاب الذي نزله الله للحكم في الخلاف وجمع الكلمة على اتباع الحق ، لفي شقاق وعداء بعيد عن سبيل الحق ، فأنى يهتدون إليه ، وكل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من مذهب أو رأي فيه حتى صار ( أي الكتاب ) وهو مزيل الاختلاف أعظم أسبابه ، يطرق لأجل إزالته والحكم فيه كل باب غير بابه ؟ والشقاق الخلاف والتعادي وحقيقته أن يكون كل واحد من الخصمين في شق أي في جانب غير الذي فيه الآخر ، والمختلفون في الدين ينأى كل بجانبه عن الآخر فيكون الشقاق بينهما بعيدا كما نرى .
هذا حكم آخر في الكتاب غير حكم كتمانه ، فهو يفهمنا أن الاختلاف فيه بعد عن الحق ككتمانه ، لأن الحق واحد وهو ما يدعو إليه الكتاب ، والمختلفون لا يدعون إلى شيء واحد ولا يسلكون سبيلا واحدة{ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} ( الأنعام:153 ) وهذا دليل على أنه لا يجوز لأهل الكتاب الإلهي أن يقيموا على خلاف في الدين ، ولا أن يكونوا شيعا كل يذهب إلى مذهب{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} ( الأنعام:159 ) ولما كان اختلاف الفهم ضروريا لأنه من طباع البشر وجب عليهم أن يتحاكموا فيه إلى الكتاب والسنة حتى يزول ولا يجوز أن يقيموا عليه{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ( النساء:59 ) فلا عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم بعد هذا البيان الذي جعل لكل مشكل مخرجا .
الشقاق أثر طبيعي للاختلاف ، والاختلاف في الأمة أثر طبيعي للتقليد والانتصار للرؤساء الذي اتخذوا أنداداولو بدون رضاهم ولا إذنهمإذ لولا التقليد لسهل على الأمة أن ترجع في كل عصر أقوال المجتهدين والمستنبطين إلى قول واحد بعرضه على كتاب الله وسنة رسوله . مثال ذلك أن الكتاب والسنة صريحان في أن النكاح لا يصح إلا إذ تولى العقد ولي المرأة برضاها أو غيره بإذنه وقد أجمع الصحابة على هذا العمل ، ونقلا عن أعمالهم قولا ، ولم ينقل أحد فيه خلافا صحيحا ، فإذا وجد للحنيفة في مسألة قولان:( أحدهما ) مخالف للنصوص وهو أن للبالغة الراشدة أن تزوج نفسها .( وثانيهما ) أنه ليس لها ذلك وهو الموافق للنصوص أفلم يكن من الواجب على المسلمينوقد اختلف علماؤهم في هذه المسألة أن يعرضوها على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسائر المجتهدين ، ويردوا الراوية المخالفة ويعملوا بالموافقة ؟ بلى ولكن التقليد ، هو الذي أوقعهم في الشقاق البعيد .
ويتوهم بعضهم أن ترك أقوال بعض الأئمة إهانة لهم ، وهذا غير صحيح بل هو عين التعظيم لهم ، والإتباع لسيرتهم الحسنة .ولو فرضنا أنه إهانةوكان يتوقف عليها اتباع هدي كتاب الله وسنة رسولهأفلا تكون واجبة ويكون تعظيم الكتاب والسنة مقدما عليه لأن إهانتهما كفر وترك للدين ؟ على أن ترك أقوال الأئمة واقع ما له من دافع ، فإن أتباع كل إمام تاركون لأقوال غيره المخالفة لمذهبهم ، بل ما من مذهب إلا وقد رجح بعض علمائه أقوالا مخالفة لنص الإمام ولاسيما الحنيفة .
هذاوإن الكتاب لا مثار فيه للخلاف والنزاع إذا صحت النية ، فكل من يتعلم العربية تعلما صحيحا وينظر في سنة النبي وسيرته وما جرى عليه السلف من أصحابه والتابعين لهم يسهل عليه أن يفهمه ، وما تختلف فيه الأفهام لا يقتضي الشقاق بل يسهل على جماعة المسلمين من أهل العلم والفهم أن ينظروا في الفهمين المختلفين وطرق الترجيح بينهما ، وما عساه ينفرد به بعض الأفراد من فهم خاص بمعارفه يكون حجة عليه دون غيره ، فهولا يقتضي شقاقا لأن الشقاق فيه معنى المشاركة .والله أعلم وأحكم .
وأزيد هذا إيضاحا بما حققته في هذه المسألة بعد الطبعة الأولى لهذا الجزء وهو أن ما كان قطعي الدلالة من النصوص فهو الشرع العام الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه عملا وقضاء ، وأن ما كان ضني الدلالة فهو موكول إلى اجتهاد الأفراد في التعبدات والمحرمات ، وإلى أولي الأمر في الأحكام القضائية .وسنعود إلى بيان هذا في تفسير{ يسألونك عن الخمر والميسر} ( البقرة:219 ) من هذا الجزء .