{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم 174 أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار 175 ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد 176} .
هذه الآيات متصلة بما قبلها على كلا الوجهين السابقين:فإذا كان الكلام لا يزال في محاجة اليهود وأمثالهم فالأمر ظاهر ، وإذا قلنا إن الكلام قد دخل في سرد الأحكام ، وتكون مقررة لحكم منها وهو ظاهر أيضا ، فقد تقدم أن قوله تعالى:{ يا أيها الناس كلوا مما في الأرض} ( البقرة:168 ) تقرير لحكم في الأكل على خلاف ما عليه أهل الملل ، وبينا ما كان عليه أهل الكتاب والمشركين في الأكل ، ونقض القرآن لما وضعوه لأنفسهم من أوهاق{[59]} الأحكام وإباحته الطيبات للناس بشرط أن يشكروه عليها ، وعلى هذا تكون هذه الآيات جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرم الله ويشرعون لهم ما لم يشرعه ، من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك ، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع ما لم يأذن به الله وإظهار خلافه ، سواء كان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم ، أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك ، قال تعالى:{ تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا} ( الأنعام:91 ) وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم ويكتم بعضه لمنفعته ، لا لإظهار الحق وتأييده ، وهذا هو ما عبر عنه بقوله:{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا} أي الذين يخفون شيئا مما أنزل الله من كتابه فلا يبلغونه للناس مهما يكن موضوعه ، أو يخفون معناه عنهم بتأويله أو تحريفه أو وضع غيره في موضعه برأيهم واجتهادهم ، ويستبدلون بما يكتمونه ثمنا قليلا من متاع الدنيا الفاني كالرشوة والجعل على الفتاوى الباطلة أو قضاء الحاجات عند الله تعالى وغير ذلك من المنافع المؤقتة إذ اتخذوا الدين تجارة .والثمن القليل منه ما قاله المفسر من استفادة الرؤساء من المرؤوسين ومنه عكسه كما تقدم غير مرة .
قال شيخنا:هذا النوع من البيع والشراء في الدين علم في الرؤساء الضالين من جميع الأمم .ومنه ما كان رؤساء اليهود يلاحظونه زمن التنزيل وهو حفظ ما بيدهم الذي يتوهمون أنه يفوتهم بترك ما هم عليه من التقاليد واتباع ما أنزل الله بدلا منها ، وهذا هو شأن الناس في كل دعوة إلى إصلاح جديد غير ما هم فيه ، وإن كان يعدهم بخير منه في الدنيا والآخرة ، وكان ما هم فيه هو الفقر والذل والخذلان حاضرة أو منتظرة .
ماذا كان شأن اليهود في شأن البعثة ؟ ذل واضطهاد من جميع الأمم ولاسيما النصارى ، فقد كانوا يسومونهم سوء العذاب ، ومنعوهم من دخول مدينتهم المقدسة وأكرهوهم في بعض البلاد على التنصر .
ماذا كان شأن النصارى في زمن البعثة ؟ فقر حاضر ، وذل غالب ، وحجر على العقول ، ومنع للحرية في الرأي والعلم ، وتحكم في الإرادة ، وسيطرة على خطرات القلوب وأهواء النفوس كان هذا عاما في كل قطر وكل مملكة ، وكان بين الطوائف بعضها مع بعض حروب تشب ، وغازات تشن ، ودماء تسفك ، وحقوق تنتهك ، وكانوا على هذا كله يتوهمون أن الإسلام سيخرجهم من سعادة إلى شقاء ، ومن نعمة إلى بلاء ، هب أن بعضهم كان له شيء من المال ، وبقية من الجاه أليس هو من فخفخة الدنيا الزائلة ، ألم يكن منغصا بالخوف عليه والمنازعة فيه ؟ هب أنه كان لبعض شعوبهم طائفة من القوة ، ألم تكن تشبه الزوبعة وتعصف ولا تلبث أن تزول ؟ نعم إن ما كان يغر هؤلاء وهؤلاء لم يكن موضعا للغرور ، لأنه متاع حقير ، وثمن قليل ، وهو غير قائم على أساس ثابت ، ولذلك زال بظهور الإسلام وانتشاره ، وتقوضت تلك السلطة ، واندكت صروح تلك العظمة ، وأجلي اليهود من جزيرة العرب ، وزال ملك غيرهم من كل بلاد رفضوا فيها دعوة الإسلام .وهذا شأن الباطل لا يثبت أمام الحق ، فإن أحكام الباطل مؤقتة لا ثبات لها في ذاتها ، وإنما بقاؤها في نوم الحق عنها ، وحكم الحق هو الثابت بذاته ، فلا يغلب أنصاره ما داموا معتصمين به ، مجتمعين عليه .
وقال المفسرون إن هذا الحكم يصدق على المسلمين كما يصدق على أهل الكتاب لأن الغرض تقرير الحكم وهو عام كما يدل لفظه ، وكما يليق بعدل الله تعالى رب العالمين ، وكما هو ظاهر معقول من اطراد سنة الله تعالى في تأييد أنصار الحق وخذل أهل الباطل فإنها واضحة جلية للمتأملين .
كل ثمن يؤخذ عوضا عن الحق فهو قليل:إن لم يكن قليلا في ذاته فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الثابتة بذاتها ، والدائمة بدوام المحافظة على الحق .ولو دام الباطل إلى نهاية الأجلوما هو إلا قصيرفماذا يفعل وقد فاتته بذلك سعادة الروح ونعيم الآخرة باختياره الباطل على الحق{ وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} ( التوبة:38 ) .
قد يعترض الناظر في التاريخ ما قرره الأستاذ الإمام في هذا المقام من ذهاب عز الذين قاوموا الإسلام وكتموا الحق من اليهود والنصارى ، بأن عشية اليهود كانت بعد الإسلام خيرا منها قبله ، لأنهم كانوا مضطهدين مقهورين بحكم النصارى الشديد وتعصبهم الفاحش ، فساوى الإسلام بينهم وبين النصارى والمسلمين ، وأعطاهم كمال الحرية في دينهم ودنياهم فحسنت حالهم في الشرق والغرب وكثر ما بأيدهم ولم يقل .وإن المسلمين لم يقووا على جميع نصارى أوروبا فبقي لكثير من الممالك سلطانها وما تتمتع به .وكذلك بعض الممالك الوثنية وهم أعرق في الباطل من النصارى .
والجواب عن ذلك أن يهود الحجاز هم الذين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويكتمون ما عرفوا من نعته ويظاهرون المشركين عليه ، فهم الذين قاوموا الحق بالباطل ، فلقوا جزاءهم الذي تم بجلائهم من جزيرة العرب أو الحجاز .وأما يهود سورية وغيرها ( كالأندلس ) فقد كانوا يساعدون الدعوة الإسلامية ودعاتها حتى من لم يؤمن منهم ليخلصوا من ظلم النصارى واستبدادهم فيهم ، فنالوا من حسن الجزاء بمقدار قربهم من الحق ، ولو آمنوا وقبلوا الحق كله وأيدوه لذاته ظاهرا وباطنا لأوتوا أجرهم مرتين ، وجزاءهم ضعفين ، وكانوا أئمة وارثين ، وسادة عالين .
وأما الذين سلم لهم ملكهم ومتاعهم فلم يكن لهم ذلك بضعف حق الإسلام عن باطلهم ، فإن الذين حاولوا فتح ما وراء الأندلس من أوروبا لم يكن غرضهم كلهم نشر دعوة الحق وإنما كان غرضهم عظمة الملك والغنائموليس من الحق أن يعتدي قوم على قوم لأجل سلب ما في أيديهم ، فإن المعتدي مبطل ، والمدافع محق في الدفاع عن نفسه وبلاده ، وإن كان مبطلا في عمله واعتقاده ، فهو جدير بأن يكون له الظفر إذا أخذ له أهبته ، وأعد له عدته .وقس على هذا سائر الممالك التي لم يقو المسلمين عليها بعد ترك الدعوة لأجل الهداية .والإسلام لا يبيح الحرب لذاتها وقد حرم الاعتداء ، وإنما يوجب تعميم الدعوة على الحق والخير فمن عارضها وجب جهاده عند القدرة ، حتى يقبلها أو يكون لأهلها السلطان الذي يتمكنون به من نشرها بدون معارضأي أنه يوجب الجهاد ما دام الناس يفتنون في الدينأي لا تكون لهم حرية فيه ولا في الدعوة إليهأو يعتدى عليهم وعلى بلادهم{ وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} ( البقرة:190 ){ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} ( البقرة:193 ) وسيأتي تفسيرها قريبا .
{ أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} أي أولئك الكاتمون لكتاب الله والمتجرون به ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار وانتهاء مطامعهم بعذابها ، وهذا أظهر من القول بأنهم لا يأكلون في دار الجزاء إلا النار أو طعام النار من الضريع والزقوم ، وعبر عن المنافع في بالأكل لأنه أعمها .والمعنى لا تملأ بطونهم إلا النار ، فإن الأكل لما كان لا يكون إلا في البطن كان لا بد من نكتة لذكر البطن إذا قيل أكل في بطنه ، ورأيناهم يعبرون بذلك عن الامتلاء ، يقولون أكل في بطنه يريدون ملأ بطنه ، والأصل أن يأكل الإنسان دون امتلاء بطنه .والمراد أنه لا يشبع جشعهم ، ولا يذهب بمطمعهم ، إلا النار التي يصيرون إليها ، على حد ما ورد في الحديث ( ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ){[60]} واستشهدوا للتعبير بأكل النار عن سبب عذابها بقول القائل في زوجه:
دمشق خذيها لا تفتك فليلة *** تمر بعودي نعشها ليلة القدر
أكلت دما إن لم أرعك بضرة *** بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
فإنه يريد بالدم الدية التي هو سببهاوأكلها عار عندهمفهو يدعوا على نفسه بأن يبتلى بأكل الدية إن لم يرع زوجه ويزعجها بضرة هي من الجمال بالصفة التي ذكرها ، وأكل الدية يتوقف على أن يقتل بعض أهله الذين له الولاية عليهم .قال تعالى:{ ولا يكلمهم الله يوم القيامة} قالوا إن الكلام كناية عن الإعراض عنهم والغضب عليهم وهي كناية مشهورة شائعة إلى اليوم .وجمعوا بهذا بين الآية وبين قوله تعالى:{ فوربك لنسألنهم أجمعين} ( الحجر:92 ) وقوله:{ فلنسألن الذين أرسل إليهم} ( الأعراف:6 )وقيل لا يكلمهم بما يحبونه{ ولا يزكيهم} أي لا يطهرهم من ذنوبهم بالمغفرة والعفو وقد ماتوا وهم مصرون على كفرهم{ ولهم عذاب أليم} أي شديد الألم .