بعد ذكر إباحة الطيبات ذكر المحرمات فقال تبارك اسمه{ إنما حرم عليكم الميتة} هذا حصر لمحرمات الطعام من الحيوان بصيغة{ إنما} الدالة على ما سبق الإعلام به وهو آية سورة الأنعام التي ورد فيها حصر التحريم في هذه الأربعة بصيغة الإثبات بعد النفي .وإنما حرم الميتة لما في الطباع السليمة من استقذارها ، ولما يتوقع من ضررها ، فإنها إما أن تكون ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة ، وكلاهما لا يؤمن ضررها ، لأن المرض قد يكون معديا ، والموت الفجائي يقتضي بقاء بعض الأشياء الضارة في الجسم كالكربون الذي يكون سبب الاختناق ، هذا ما قاله الأستاذ الإمام ويزيد عليه عدم القصد إلى إماتتها بعمل الإنسان وهو سبب الفرق بين المخنوقة والمنخنقة التي هي في معنى الميتة حتف أنفها ، ولذلك كان في معنى الميتة كل ما زالت حياته بغير قصد الذكاة كالمنخنقة والموقودةإلى أخر ما ذكر في آية المائدة .
{ والدم} أي المسفوح كما في آية الأنعام ، فإنه قذر لا طيب وضار كالميتة{ ولحم الخنزير} فأنه قذر ، لأن أشهى غذاء الخنزير إليه القاذورات والنجاسات ، وهو ضار في جميع الأقاليم ولاسيما الحارة كما ثبت بالتجربة ، وأكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتالة ويقال إن له تأثيرا سيئا في العفة والغيرة{ وما أهل به لغير الله} وهو ما يذبح ويقدم للأصنام أو غيرها مما يعبد .والمنع من هذا ديني محض لحماية التوحيد ، لأنه من أعمال الوثنية ، فكل من أهل لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب إلى من أهل باسمه تقرب عبادة ، وذلك من الإشراك والاعتماد على غير الله تعالى .
وقد ذكر الفقهاء أن كل ما ذكر عليه اسم غير اسم الله لو مع اسم الله فهو محرم ، وعد منه الأستاذ الإمام ما يجري في الأرياف كثيرا من قولهم عند الذبحلاسيما ذبح المنذوربسم الله ، الله أكبر ، يا سيد .يدعون السيد البدوي أن يلتفت إليهم ويتقبل النذر ويقضي حاجة صاحبه ( قال ) وكيفما أولته فهو محرم .ومثل ذكر السيد ذكر الرسول أو المسيح إذ لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها ، فهي تذبح وتؤِكل باسمه لا يشركه في ذلك سواه ، ولا يتقرب بها إلى من عداه ، ممن لم يخلق ولم ينعم ولم يبح ذلك لأنه غير واضع للدين .
{ فمن اضطر} إلى الأكل مما ذكر بأن لم يجد ما يسد به رمقه سواه{ غير باغ} له أي طالب له ، راغب فيه لذاته{ ولا عاد} متجاوز قدر الضرورة{ فلا إثم عليه} لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم أو لحم الخنزير ، بل الضرر في ترك الأكل محقق ، وهو في فعله مظنون ، وربما كانت شدة الحاجة إلى الأكل مع الاكتفاء بسد الرمق مانعة من الضرر .وأما ما أهل به لغير الله فمن أكل منه مضطرا فهو لا يقصد إجازة عمل الوثنية ولا استحسانه .{ إن الله غفور رحيم} إذ حرم على عباده الضار ، وجعل الضرورات بقدرها ، لينتفي الحرج والعسر عنهم ، ووكل تحديدهم إلى اجتهادهم ، فهو يغفر لهم خطأهم فيه لتعذر ضبطه .
وفسر الجلال كلمة{ باغ} بالخارج على المسلمين ، و{ عاد} بالمعتدي عليهم بقطع الطريق ( قال ) ويلحق بهم كل عاص بسفره كالآبق والمكاس وعليه الشافعي .قال الأستاذ الإمام:ولا خلاف بين المسلمين في أن العاصي كغيره يحرم عليه إلقاء نفسه في التهلكة ، ويجب عليه توقي الضرر ، ويجب علينا دفعه عنه إن استطعنا ، فكيف لا تتناوله إباحة الرخص .ثم إن المناسب للسياق أن تحدد الضرورة التي تجيز أكل المحرم وتفسير الباغي والعادي بما ذكرنا هو المحدد لها ، وهو موافق للغة كقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف{ ما نبغي} ( يوسف:65 ) وفي الحديث الصحيح ( يا باغي الخير هلم ) وفي التنزيل{ ولا تعد عيناك عنهم} ( الكهف:28 ) أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم .فالكلام في تحديد الضرورة وتمام بيان حكم ما يحل من الأكل ، لا السياسة وعقوبة الخارجين على الدولة والمؤذين للأمة ، وإنما كان هذا التحديد لازما لئلا يتبع الناس أهوائهم في تفسير الاضطراب إذا هو وكل إليهم بلا حد ولا قيد ، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر ، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة ، فعلم من قوله{ غير باغ ولا عاد} كيف تقدر الضرورة بقدرها ، والأحكام عامة يخاطب بها كل مكلف لا يصح استثناء أحد إلا بنص صريح من الشارع .ويذكر بعض المفسرين في هذا المقام مسائل خلافية في الميتة كحل الانتفاع بجلدها وغير ذلك مما ليس بأكل ، وقد قلنا إننا لا نعترض في بيان القرآن إلى المسائل الخلافية التي لا تدل عليها عبارته إذ يجب أن يبقى دائما فوق كل خلاف .
هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس ، واقتصرت عليه في الطبعة الأولى وقرأه هو فيها .وأقول الآن إنه رحمه الله كانت خطته الغالبة في ترك المسائل الخلافية التي لا يدل عليها القرآن ، وهذا غير الخلاف في مدلول عباراته كما هنا ، وربما يكون ذكر الخلاف وسيلة إلى بيان كونه فوق كل خلاف .
وقد زاد المسفرون على هذه المحرمات تبعا لفقهائهم محرمات أخرى استدلوا عليها بأحاديث آحادية في دلالتها نظر وبعموم تجريم الخبائث وهي معارضة بما في هذه الآية وغيرها من الحصر .وقد حققت هذه المسألة في تفسير:{ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم} ( الأنعام:140 ) الخ وفندت ما قيل في تأويلها بما ظهر به أن القرآن فوق كل خلاف{[58]} .
ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر ( غفور ) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة ، فقد يقال إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية .وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات .والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطراب دقيق جدا ومرجعه إلى اجتهاد المضطر ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق وأن يقف عنده ، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في صف الباغي والعادي بغير اختياره ، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يعتمد تجاوز الحدود والله أعلم .