الآية التالية تبين بعض ألوان الأطعمة المحرمة ،وتقول: ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) .
تذكر الآية ثلاثة أنواع من اللحوم المحرمة إضافة إلى الدم ،وهي من أكثر المحرمات انتشاراً في ذلك العصر ،في بعضها خبث ظاهر لا يخفى على أحد كالميتة والدم ولحم الخنزير ،وفي بعضها خبث معنوي كالتي ذبحت من أجل الأصنام .
الحصر في الآية بكلمة «إنما » هو «حصر إضافي » لا يستهدف منه بيان جميع المحرمات ،بل نفي ما ابتدعوه بشأن بعض اللحوم المحللة .بعبارة أخرى ،هؤلاء الجاهليون حرّموا بعض الأطعمة الطيبة استناداً إلى ما توارثوه من خرافات وأوهام ،لكنهم بدلا من ذلك كانوا يعمدون عند قلة الطعام إلى أكل الميتة أو الخنزير أو الدم .
القرآن يقول لهؤلاء: إن هذه هي الأطعمة المحرمة لا تلك ( وهذا هو معنى الحصر الإِضافي ) .
ولمّا كانت بعض الضرورات تدفع الإنسان إلى تناول الأطعمة المحرمة حفظاً لحياته ،فقد استثنت الآية هذه الحالة وقالت: ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَ عَاد فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ) .
ومن أجل أن تقطع الآية الطريق أمام من يتذرع بالاضطرار ،أكدت على كون المضطر «غير باغ » و«لا عاد » .والباغي هو الطالب ،والمراد هنا طالب اللذة والعادي هو المتجاوز للحد ،أي المتجاوز حدّ الضرورة ،فالرخصة هنا إذن لمن لا يريد اللذة في تناول هذه الأطعمة ،ولا يتجاوز حد الضرورة اللازمة لنجاته من الموت .
ولأن معنى البغي الظلم أيضاً ذهب بعض المفسرين إلى أن الرخصة ممنوحة لأُولئك الذين يضطرون خلال سفر محلل ،لا خلال سفر المعصية .
فالمسافرون لهدف غير مشروع قد يجب عليهم تناول الأطعمة المحرمة لحفظ النفس من التلف ،إلاّ أن هذا العمل يكتب في صحيفة أعماله من الذنوب .
بعبارة أخرى: هؤلاء العاصون قد يجب عليهم عقلا في أسفارهم المحرمة أن يتناولوا شيئاً من الأطعمة المحرمة لدى الاضطرار ،لكن هذا الوجوب لا يرفع عنهم المسؤولية ،لأنهم أجبروا على ذلك وهم على مسير خاطئ .
وهناك روايات تذكر أن الآية تشير إلى السائرين على طريق الخروج على إمام المسلمين ،فهؤلاء مستثنون من هذه الرخصة .وهذه الروايات تشير في الواقع إلى نفس الحقيقة المذكورة ،وهكذا الأمر في أحكام صلاة المسافر ،فالمسافر يقصر الصلاة في السفر إلاّ ما كان سفراً حراماً ،ولذلك يستدلّ بعبارة ( غير باغ ولا عاد ) للحكمين معاً ،حكم صلاة المسافر ،وحكم ضرورة تناول اللحوم المحرمة{[234]}
وفي الختام تقول الآية: ( إنّ الله غفورٌ رحيمٌ ) فإن الله الذي حرّم تلك الأطعمة أباح تناولها في موارد الضرورة برحمته الخاصة .
1فلسفة تحريم اللحوم المحرمة:
الأغذية المحرمة التي ذكرتها الآية الكريمة أعلاه لهاكسائر المحرمات الإلهيةفلسفتها الخاصة .وقد شرّعت انطلاقا من خصائص الإنسان جسمياً وروحياً .والروايات الإِسلامية ذكرت علل بعض هذه الأحكام ،والعلوم الحديثة أماطت اللثام أيضاً عن بعض هذه العلل .
على سبيل المثال ،روي عن الإمام الصادق( عليه السلام ) قال: « ... أَمَّا الْمِيْتَةُ فَإِنَّهُ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا أَحَدٌ إِلاَّ ضَعُفَ بَدَنُهُ ،وَذَهَبَتْ قُوَّتُهُ ،وَانْقَطَعَ نَسْلُهُ ،وَلاَ يَمُوتُ آكِلُ الْمِيْتَةِ إِلاَّ فَجْأَةً »({[235]} ) .
ولعل هذه المفاسد تعود إلى أن جهاز الهضم لا يستطيع أن يصنع من الميتة دماً سالماً حياً ،إضافة إلى أن الميتة مرتع أنواع الميكروبات ،والإِسلام اعتبر الميتة نجسة ،كي يبتعد عنها المسلم فضلا عن عدم تناولها .
والمحرّم الثاني في هذه الآية «الدم » ،وشرب الدم له مفاسد أخلاقية وجسمية ،فهو وسط مستعد تماماً لتكاثر أنواع الميكروبات .
الميكروبات التي تدخل البدن تتجه أول ما تتجه إلى الدم ،وتتخذه مركزاً لنشاطهم ،ولذلك اتخذت الكريات البيضاء مواقعها في الدم للوقوف بوجه توغل هذه الأحياء المجهرية في الدم المرتبط بكل أجزاء الجسم .
وحين يتوقف الدم عن الحركة وتنعدم الحياة فيه ،يتوقف نشاط الكريات البيض أيضاً ،ويصبح الدم بذلك وسطاً صالحاً لتكاثر الميكروبات دون أن تواجه عقبة في التكاثر .ولذلك نستطيع القول إن الدمحين يتوقف عن الحركةيكون أكثر أجزاء جسم الإنسان والحيوان تلوثاً .
ومن جهة أخرى ثبت اليوم في علم الأغذية ،أن الأغذية لها تأثير على الأخلاق والمعنويات عن طريق التأثير في الغدد وإيجاد الهورمونات .ومنذ القديم ثبت تأثير شرب الدم تشديد قسوة الإنسان ،وأصبح ذلك مضرب الأمثال .لذلك نرى الرواية عن الإمام جعفر بن محمّد( عليه السلام ) تقول:
«أمّا الدم فإنه يورث القسوة في القلب وقلّة الرأفة والرحمة حتى لا يؤمن أن يقتل ولده ووالديه ولا يؤمن على حميمه ولا يؤمن على من يصحبه »{[236]} .
ثالث: المحرمات المذكورة في الآية «لحم الخنزير » .
الخنزيرحتى عند الأوروبيين المولعين بأكل لحمهرمز التحلل الجنسي .وهو حيوان قذر للغاية ،وتأثير تناول لحمه على التحلل الجنسي لدى الإنسان مشهود .
حرمة تناول لحمه صرحت بها شريعة موسى( عليه السلام ) أيضاً ،وفي الأناجيل شُبّه المذنبون بالخنزير ،كما أن هذا الحيوان مظهر الشيطان في القصص .
ومن العجيب أن أُناساً يرون بأعينهم قذارة هذا الحيوان حتى إنه يأكل عذرته ،ويعلمون احتواء لحمه على نوعين خطرين من الديدان ،ومع ذلك يصرّون على أكله .
دودة «التريشين » التي تعيش في لحم هذا الحيوان تتكاثر بسرعة مدهشة ،وتبيض في الشهر الواحد خمسة عشر ألف مرة ،وتسبب للإنسان أمراضاً متنوعة كفقر الدم ،والغثيان ،وحمّى خاصة ،والإسهال ،وآلام المفاصل ،وتوتر الأعصاب ،والحكّة ،وتجمع الشحوم داخل البدن ،والإحساس بالتعب ،وصعوبة مضغ الطعام وبلعه ،والتنفس و ....
وقد يوجد في كيلو واحد من لحم الخنزير ( 400 ) مليون دودة من هذه الديدان !!ولذلك أقدمت بعض البلدان الأوروبية في السنوات الماضية على منع تناول لحم هذا الحيوان .
وهكذا تتجلى عظمة الأحكام الإلهية بمرور الأيّام أكثر فأكثر .
يقول البعض إن العلم تطور بحيث استطاع أن يقضي على ديدان هذا الحيوان ،ولكن على فرض اننا استطعنا بواسطة العقاقير ،أو بالاستفادة من الحرارة الشديدة في طبخه ،إلاّ أن أضراره الأخرى ستبقى .وقد ذكرنا أن للأطعمة تأثيراً على أخلاق الإِنسان عن طريق تأثيرها على الغدد والهورمونات وذلك الأصل علمي مسلّم ،وهو أن لحم كل حيوان يحوي صفات ذلك الحيوان أيضاً .من هنا تبقى للحلم الخنزير خطورته في التأثير على التحلل الجنسي للآكلين ،وهي صفة بارزة في هذا الحيوان .
ولعل تناول لحم هذا الحيوان أحد عوامل التحلّل الجنسي في أوربا .
رابع ،المحرمات في الآية ( مَا أُهلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) ،وهي الحيوانات التي تذبح على غير اسم الله ،كالتي كانت تقدم للأصنام في الجاهلية .
وتحريم لحوم هذه الحيوانات لا يلزم بالضرورة أن تكون لها أضرار صحية حتى ؟يقال: إن ذكر اسم الله أو غير الله حين الذبح لا ربط له بالأمور الصّحية .فليس من الحتم أن تكون للحم آثار صحية حتى تكون محرمة .لان المحرمات في الإسلام لها أبعاد مختلفة ،فتارة بسبب الصحة وحفظ البدن وأخرى يكون للتحريم جانب معنوي وأخلاقي وتربوي ،فهذه اللحوم تبعد الإنسان عن الله ،ولها تأثير نفسي وتربوي سلبي على الآكل ،لأنها من سنن الشرك والوثنية وتعيد إلى الذهن تلك التقاليد الخرافية .
2التكرار والتأكيد
تحريم المواد الأربع المذكورة تكرر في أربع سور من القرآن ،سورتين مكيتين ( الأنعام ،145 والنحل ،115 ) وسورتين مدنيتين ( البقرة ،173 والمائدة ، 3 ) .
يبدو أن تحريم هذه اللحوم أعلن أولا في أوائل البعثة ،ثم أعلن ثانية في أواخر إقامة الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مكة ،وتكرر الإعلان ثالثة في أوائل الهجرة إلى المدينة ،ثم أُعيد التأكيد رابعة في أواخر عمر الرّسول في سورة المائدة وهي آخر سور القرآن .
كل هذا التأكيد يعود إلى أهمية الموضوع وإلى ما في هذه المواد من أخطار جسمية وروحية ،وإلى اتساع نطاق تلوث النّاس آنئذ بها .
3حقن الدم
واضح أن تحريم تناول الدم في الآية لا يشمل موارد الاستفادة المعقولة من هذه المادة مثل حقن الدم لإنقاذ الجرحى والمرضى ،كما لا يتوفر لدينا دليل على حرمة بيع الدم وشرائه في هذه الموارد ،لأنها موارد استفادة عقلائية مشروعة عامة .