] إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ[ أي: أكلها ،والظاهر أنَّ المراد بالميتة ما مات حتف أنفه بقرينة مقابلتهفي هذه الآيةبما أُهِلَّ به لغير اللّه مما هو داخل في التذكية غير الشرعية لفقدانه للتسمية ،أو للتسمية عليه بغير اسم اللّه ،كما أنَّ الميتة ذكرت في سورة المائدةفي مقابل ما أهل لغير اللّه به ،والمنخنقةوهي التي ماتت بالخنقوالموقوذةوهي المضروبة بخشب أو حجروالمُتَردِّيةأي: التي تردّت من علوّ إلى بئر فماتتوالنطيحةوهي التي تنطحها أخرى فتموتوذلك هو قوله تعالى:] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ [ المائدة:3] وهذا هو ما يستفاد من الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) في تحليل السرّ في تحريم الميتة قالفي ما روي عنه: «أمّا الميتة فإنه لم ينل منها أحد إلاَّ ضعف بدنه ،ووهنت قوّته ،وانقطع نسله ،ولا يموت آكل الميتة إلاّ فجأة » .فإنَّ هذه الخصائص السلبية من مستلزمات الموت حتف الأنف لا من خصائص الفاقد لبعض شروط التذكية الشرعية ،أمّا إلحاق غير المذكى بالميتة في الحرمة ،فهو من خلال ما قد يستفاد من آية المائدة ،أو من الأحاديث الواردة في السنة الشريفة .
] وَالدَّمَ[ وقد ذكر البعض أنَّ الدم وسط مستعد لتكاثر أنواع الميكروبات ،فالميكروبات التي تدخل البدن تتجه أول ما تتجه إلى الدم ،وتتخذه مركزاً لنشاطها ،ولذلك اتخذت الكريات البيضاء مواقعها في الدم للوقوف بوجه توغل هذه الأحياء المجهرية في الدم المرتبط بكلّ أجزاء الجسم ،وحين يتوقف الدم عن الحركة وتنشل الحياة فيه ،يتوقف نشاط الكريات البيض أيضاً ،ويصبح الدم بذلك وسطاً صالحاً لتكاثر الميكروبات من دون أن تواجه عقبة في التكاثر .ولذلك نستطيع أن نقول: إنَّ الدم حين يتوقف عن الحركة يكون أكثر أجزاء جسم الإنسان والحيوان تلوّثاً .
ومن جهة أخرى ،ثبت اليوم في علم الأغذية ،أنَّ الأغذية لها تأثير على الأخلاق والمعنويات عن طريق التأثير في الغدد وإيجاد الهرمونات .ومنذ القديم ثبت تأثير شرب الدم على تشديد قسوة الإنسان ،وقد جاءت الرِّواية عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) قال: «أمّا الدم ،فإنه يورث أكله الماء الأصفر ،ويبخر الفم ،وينتن الريح ،ويسيء الخلق ،ويورث الكَلَب والقسوة في القلب ،وقلة الرأفة والرحمة ،حتى لا يُؤْمَن أن يقتل ولده ووالديه ،ولا يُؤْمَن على حميمه ،ولا يؤمن على من يصحبه » .
] وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ[ وقد ذكر أنه يشتمل على بعض الديدان الخطرة على الصحة العامة للإنسان من خلال طبيعتها الضارة ،ومنها «دودة التريشي التي تعيش في لحم هذا الحيوان وتتكاثر بسرعة مدهشة ،وتضع في الشهر خمسة عشر ألف بيضة ،وتسبب للإنسان أمراضاً متنوعة كفقر الدم ،والغثيان ،والحمى خاصة ،والإسهال ،وآلام المفاصل ،وتوتر الأعصاب ،والحكة ،وتجمع الشحوم داخل البدن ،والإحساس بالتعب ،وصعوبة مضغ الطعام وبلعه والتنفس و ...» ،وقد يوجد في كيلو واحد من لحم الخنزير «400 » مليون دودة من هذه الديدان .ويضيفون إلى مضاره تأثيره في التحلل الجنسي للإنسان .
] وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه[ وهو الحيوان الذي يذبح على اسم غير اسم اللّه ،كالأصنام ونحوها مما يعبده المشركون .ولعلّ التحريم في هذا النوع ناشىء من العناصر الروحية التربوية ،لأنَّ اللّه يريد للإنسان أن ينطلق في استحلاله للحيوانات من خلال اسم اللّه ليعيش في نفسه أنَّ الانطلاق من اسم اللّه تعالى هو الأساس في كلّ حركته الغذائية في الحياة .] فَمَنِ اضْطُرَّ[ بأن توقفت حياته على أكل هذه المحرمات ،أو استلزم تركها الوقوع في حرج شديد لا يُتَحمَّل عادة في الواقع الطبيعي للإنسان مما يصدق عليه مفهوم الاضطرار عرفاً ،] غَيْرَ بَاغٍ[ أي ظالم سائر في طريق البغي ،أو متجاوزٍ للحدود المرسومة له في حركته في سفره أو حضره ،أو باغ على السلطة الشرعية ؛] وَلاَ عَادٍ[ أي غاصب أو سارق أو عاص آخذٍ بالمعصية أو معتدٍ على العباد ،] فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ[ لأنَّ اللّه أحل الحرام للمضطر ،ولم يجعل في دينه حرجاً على النّاس .
والوجه في استثناء الباغي والعادي هو أنَّ الإباحة للمضطر تمثّل لطفاً من اللّه بعباده ورحمةً لهم ،فلا ينالها إلاَّ الإنسان الذي لا يحارب اللّه ورسوله ،ولا يتعدّى حدوده في طريق اضطراره ،فلو كان اضطراره في خطّ البغي والعدوان لم يكن معذوراً ،بل يزداد إثماً ،وهذا كما في وجوب الإتمام في السفر على من كان عاصياً في سفره ،لأنه لا يستحق اللطف بالتخفيف في الصلاة بالقصر في السفر .
] إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ فالرخصة فيه مظهر لعفوه ومغفرته من باب رفع موضوع الذنب بالطريقة التي تلتقي فيها بالمغفرة ،واللّه العالم .
كيف نفهم حصر المحرّمات في الأربعة ؟
وقد يثور أمامنا سؤال: ما معنى هذا الحصر للمحرّمات في هذه الآية ،التي تلتقي بالآية الأخرى في سورة الأنعام:] قُل لاَ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ [ الأنعام:145] ،مع أنَّ المحرّماتولا سيما في اللحومكثيرة جداً ،كما في الكلب والحشرات والسباع ،وغيرها .
والجواب: أنَّ القضية قد تكون واردة في مورد الحصر الإضافي الذي ينظر إلى بعض الأمور التي كان يثيرها أهل الكتاب مما هو حلال في شرع اللّه ،فيحكمون بتحريمها ،غير مستندين في ذلك إلى حجة صحيحة .فهي واردة في مجال نفي تحريم ما حرّموه وإثبات تحريم هذه الأمور التي كانوا يأكلونها عند قلة الطعام ،كما قيل ،فكأنه يقول إنَّ المحرّمات هي هذه لا ما حرّموه من اللحوم الطيبة ،وليس المقصود أنَّ هذه المحرمات هي وحدها التي تعلّق بها التحريم لا غيرها ،مطلقاً ،كما هو الحصر الحقيقي .
فكانت هاتان الآيتان من أجل إيضاح الحقّ في ما هو حلال وحرام مما أوحى اللّه به إلى نبيّه محمَّد ( ص ) .وهذا لا ينفي أن تكون هناك محرّمات أخرى لم تقع موضوع النزاع والخلاف بينهم ،فلذلك لا مجال للدخول في عملية النفي والإثبات من جهتها .
ولعلَّ هذا الجواب أفضل مما ذهب إليه البعض من المفسّرين الذين اعتبروا الأسلوب القرآني وارداً في مورد العام والخاص ،حيث يأتي المتكلّم بلفظ عام مثبت أو منفي ،ثُمَّ يتبعه بالتخصيص في دليل آخر ،لأنَّ طبيعة الجوّ في هذه الآية أو تلك لا توحي بوجود حالة منتظرة في ما بعد ذلك ،واللّه العالم بحقائق آياته .