التشريع لم يمنع طيباً:
في هذه الآية نداء للمؤمنين بإباحة طيبات الرزق ،والدعوة إلى شكر اللّه على ذلك ،وتحريم بعض الأشياء عليهم ،لأنَّ ذلك كلّه من نتائج الإيمان باللّه ،فإنَّ المؤمنين باللّه هم الذين يُقبلون على ما رزقهم اللّه من طيبات الحياة إقبال الواعين لمصدر الرزق ،العارفين بما يشتمل عليه من نعمة وافرة وفضل عظيم بما توفره له من رخاء الحياة ولذتها وسعادتها ،فيندفعونمن عمق إيمانهمإلى الشكر العظيم للّه ،باعتبار أنَّ الشكر العملي يمثّل التجسيد الحي للشعور العميق بعبوديتهم للّه وخضوعهم له ،وإيمانهم بأنه أهل للعبادة ،لأنه مصدر الخير كلّه للإنسان في وجوده الممتد بكلّ النعم والألطاف .وقد يوحي أسلوب الآية الأولى بضميمة الآية الثانية ،بأنَّ اللّه قد أباح للإنسان كلّ الطيبات ،فلم يحرِّم عليه شيئاً منها مما اعتاد النّاس أن يأكلوه ويستطيبوه ويتلذذوا به ،فكأنه يقول لهم إنَّ بإمكانهم أن يمارسوا حريتهم في الأكل من هذه الطَّيبات فلا يحرموا أنفسهم شيئاً منها ،لأنها من رزق اللّه الذي أراد منه أن يبني للإنسان حياته ،ثُمَّ عدّد المحرّمات وحصرها في هذه الأربع انطلاقاً من الأضرار الجسدية والروحية المترتبة عليها ،كما ذكر المختصون بأنَّ في الثلاثة الأولى:] الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ[ أضراراً صحية تفسد على الإنسان سلامة بدنه ،أمّا الرابعة منها ،والمقصود منه ما ذبح على غير اسم اللّه ،كالمذبوح على الأصنام ،أو لها ،فهو لا يتناسب مع المعنى الروحي الذي يريد الإسلام للإنسان أن يعيشه في مأكولاته التي يريدها أن تكون على اسم اللّه ولا تكون على غير اسمه ،لأنَّ في ذلك تأثيراً على جانب الإحساس الروحي بالانتماء إلى اللّه في ما يأكل الإنسان أو يشرب ،ما يوجب أن يكون في الذبيحة معنى روحي ينطلق من حصول الذبح على اسم اللّه .وإذا كان التحريم والتحليل يتحركان في خطّ مصلحة الإنسان الروحية والمادية ومراعاة حاجاته الأساسية في ما يجلب له الراحة في حياته ،فمن الطبيعي أن يكون للتشريع في حالات التحريم حدّ يقف عنده ،وذلك في حالة الاضطرار التي لا يملك الإنسان معها سدّ رمقه بالمحلّل من المأكولات لعدم وجودها أو لتعذر حصوله عليها ،فكانت الإباحة في هذه الحالة منسجمة مع خطّ السماحة والسهولة في الشريعة الإسلامية ،ولكنَّها ليست لكلّ مضطر ،بل هي للمضطر الذي لا يكون باغياً ولا عادياً .
وقد اختلف المفسّرون في ما هو المراد من هاتين الكلمتين:] غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ[،فاختار بعضهم أن تكون حدّاً للمدى الذي يحل فيه الأكل ،وهو أن لا يتجاوز حالة الضرورة فيكتفي بسدّ رمقه ،فلا يزيد على ذلك انطلاقاً من القاعدة المعروفة «الضرورات تقدّر بقدرها » .
واختار بعضهم أن تكون تمييزاً بين نوعين من المضطر ؛فهناك النوع الذي يحصل له الاضطرار في الحالات الطبيعية التي يعيشها النّاس في أوضاع اليُسر والعُسر من دون أن يكون الاضطرار ناشئاً من حالة بغي أو عدوان ضدّ الآخرين ،وهناك النوع الذي يضطر إلى ذلك في ظروف البغي والعدوان التي سعى إليها بنفسه .وذلك كما في اللص والظالم والغاصب والخارج على الإمام وغير ذلك .
فالنوع الأول هو الذي لا يكون آثماً في تناوله للمحرّم ،بينما يظلّ الإثم ثابتاً في فعل الثاني لأنَّ مقدّماته غير شرعية ،فلا يتناول العذر في ما لو توقفت الحياة على ذلك .
ولعل الوجه الثاني أقرب إلى جوّ الآية ،لأنَّ طبيعة الاضطرار لا توحي بتناول الزائد عن مقدار الحاجة ،ولا سيما في مثل هذه الأمور التي لا تهش لها نفس المؤمن ،كما أنَّ الأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت( ع ) قد ركّزت على المعنى الثاني ،وقد جاء ختام الآية بصفة الغفور الرحيم للتدليل على أنَّ علاقة اللّه بعباده في ما يحله لهم أو يحرمه عليهم وفي ما يرتكبونه منها في ظروف طبيعية أو غير طبيعية ،هي علاقة المغفرة والرحمة التي تشمل العاصين والمطيعين لأنه الغفور الرحيم .
] يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[ فقد أحلَّ اللّه لكم كلّ طيبٍ تستلذونه وتنتفعون به من اللحوم وغيرها ،مما يشتمل على اللذة في المذاق والطيب في خصائصه وعناصره بما تستطيبه حياتكم في نموّها وقوّتها ،] وَاشْكُرُواْ للّه[ على هذه النعم التي لا تُعدّ ولا تُحصى مما يبني لكم أجسادكم وعقولكم ويسهّل لكم حياتكم ويكفل لكم الاستقرار] إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[ لأنَّ من وسائل العبادة التعبير عن الشكر للنعم الإلهية بمختلف الوسائل التي تمثّل الاعتراف بالمنّة الإلهية في ما أعطاه سبحانه .