{ يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون 172 إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم 173} .
بين الله تعالى حال الذين يتخذون الأنداد من دونه وأشار إلى أن سبب ذلك حب الحطام ، وارتباط مصالح المرؤوسين بمصالح الرؤساء في الرزق والجاه ، وخاطب الناس كلهم بأن يأكلوا مما في الأرض إذ أباح لهم جميع خيراتها وبركاتها بشرط أن تكون حلالا طيبا .وبين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم لأنهم لا استقلال لهم في عقل ولا فهمثم وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة لأنهم أحق بالفهم ، وأجدر بالعلم ، وأحرى بالاهتداء ، فقال{ يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}:الأمر هنا للوجوب لا للإباحة والطيبات ما طاب كسبه من الحلال ، ويستلزم عدم تحريم شيء منها والامتناع عنها تدينا لتعذيب النفس ، وهذا تنبيه بعد ما تقدم إلى عدم الالتفات إلى أولئك الحمقى الذين أبيحت لهم خيرات الأرض فطفقوا يحلون بعضها ويحرمون بعضا بوساوس شياطينهم وتقليد رؤسائهم ، وأعطوا ميزانا يميزون به الخواطر الشيطانية الضارة من غيرها ، فما أقاموا به ولا له وزنا ، وبين لهم الحرام من الحلال ، ولكنهم نفضوا أيديهم من عز الاستقلال بالاستدلال ، وهون عليهم التقليد ذل القيود والأغلال ، فهو يقول كلوا من هذه الطيبات ولا تضيقوا على أنفسكم مثلهم .
{ واشكروا لله} الذي خلقها لكم وسهل عليكم أسبابها ، بأن تتبعوا سنته الحكيمة في طلب هذه الطيبات واستخراجها ، وفي استعمالها فيما خلقت لأجله ، وبالثناء عليه جل جلاله وعم نواله ، واعتقاد أن هذه الطيبات من فضله وإحسانه ، ليس لمن اتخذوا أندادا له تأثير فيها ، ولذلك قال{ إن كنتم إياه تعبدون} أي إن كنتم تخصونه بالعبادة ، وتؤمنون بانفراده بالسلطة والتدبير ، فاشكروا له خلق هذه النعم وإباحتها لكم ، ولا تجعلوا له أندادا وتطلبون منهم الرزق أو ترجعون إليهم بالتحليل والتحريم ، فإن ذلك له وحده ، وإلا كنتم مشركين به ، كافرين لنعمه ، كالذين من قبلكم جهلوا معنى عبادة الله تعالى فاتخذوا بينهم وبينه وسطاء في طلب الرزق ، ورؤساء يشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه ، ويحلون لهم ويحرمون عليهم ما لم يشرعه لهم ومن الشكر له تعالى استعمال القوى التي غذيت بتلك الطيبات في نفع أنفسكم وأمتكم وجنسكم .وليس من الطيبات ما يأخذه شيوخ الطريق من مريديهم بل هو من الخبائث والسحت .
الأستاذ الإمام:لا يفهم هذه الآية حق فهمها إلا من كان عارفا بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله ، فإن المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقا وأصنافا ، منهم من حرم على نفسه أشياء معينة بأجناسها أو أصنافها كالبحيرة والسائبة عند العرب ، وكبعض الحيوانات عند غيرهم ، وكان المذهب الشائع في النصارى أن أقرب ما يتقرب به إلى الله تعالى تعذيب النفس واحتقارها وحرمانها من جميع الطيبات المستلذة ، واحتقار الجسد ولوازمه ، واعتقاد أن لا حياة للروح إلا بذلك ، وأن الله تعالى لا يرضى منا إلا إحياء الروح .وكان الحرمان من الطيبات على أنواع منها ما هو خاص بالقديسين ، أو بالرهبان والقسيسين ، ومنها ما هو عام كأنواع الصوم الكثيرة كصوم العذراء وصوم القديسين ، وفي بعضها يحرمون اللحم والسمن دون السمك ، وفي بعضها يحرمون السمك واللبن والبيض أيضا .وكل هذه الأحكام والشرائع قد وضعها الرؤساء وليس لها أثر ينقل عن التوراة أو عن المسيح عليه السلام ، وبذلك كانوا أندادا ، ونزل في شأنهم:{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} ( التوبة:31 ) وتقدم بيان ذلك وقد سرت إليهم هذه الأحكام بالوراثة عن آبائهم الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات ويرون أن التقرب إلى الله محصور في تعذيب النفس وترك حظوظ الجسد ، إذ رأوا في دينهم وفي سيرة المسيح وحواريه من طلب المبالغة في الزهد ما يؤذيها .
وقد تفضل الله تعالى على هذه الأمة بجعلها أمة وسطا تعطي الجسد حقه والروح حقها كما تقدم في تفسير{ وكذلك جعلناهم أمة وسطا} ( البقرة:143 ) فأحل لنا الطيبات لتتسع دائرة نعمه الجسدية علينا ، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقلية ، فلم نكن جثمانيين محضا كالأنعام ، ولا روحانيين خلصا كالملائكة .
وإنما جعلنا أناسي كملة ، بهذه الشريعة المعتدلة ، فله الحمد والشكر والثناء الحسن .
ظهر بهذا التقرير أن الآية متصلة بما قبلها ومتممة له .وقال بعض المفسرين وله وجه فيما قال:إن ما تقدم من أول السورة إلى ما قبل هذه الآية كله في القرآن والرسالة وأحوال المنكرين للداعي ، وما جاء فيها من الأحكام فإنما جاء بطريق العرض والاستطراد ، وهذه الآية ابتداء قسم جديد من الكلام ، وهو سرد الأحكام ، فإنه يذكر بعدها أحكام محرمات الطعام وأحكام الصوم والحج والقصاص والوصية والنكاح والطلاق والرجعة والعدة والإيلاء والرضاع وغير ذلك ، وينتهي هذا القسم بما قبل قوله تعالى:{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} ( البقرة:243 ) الآية ، ولا غرو فإن بين كل قسم وآخر في القرآن من التناسب مثل ما بين كل آية وأخرى في القسم الواحد:{ كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} ( هود:1 ) .