بين الله سبحانه وتعالى أننا فيما أباحه الله لنا لا نتبع خطوات الذي يغوينا بتحريم ما أحل لنا ، وذكر حال المشركين في اعتقاداتهم ثم بين بعد ذلك ما أحله وما حرمه ، فقال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} وكان النداء إلى الناس الذين كان منهم من اتبع خطوات الشيطان ، أما الآن فالخطاب للمؤمنين خاصة ، وهم لا يتبعون الشيطان إنما يتبعون شرع الرحمان .
الأمر هنا للإباحة ، والإباحة بالجزء ، أي لنا أن نتخير من الطيبات ، وعلينا أن نتناول ما نحب ، من غير أن نحرم على أنفسنا شيئا كما تلونا قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين 87} [ المائدة] ، وبالنسبة لمجموعة الأوقات فالأكل من الطيبات فرض ، فهو وإن كان مباحا بالجزء مطلوب بالكل ، ليس لأحد أن يترك الأكل من الطيبات فإن ذلك يكون حراما ، ويؤدي إلى الهلاك كما ذكرنا في ماضي قولنا .
والطيبات هي ما تستطيبه النفوس ، ويكون حلالا ، والأكل منه مطلوب لتقوى الأجسام ولتقوى العقول والنفوس في ذاتها ، ولتقوى للجهاد في سبيله وبشرط أن تكون حلالا . وحرم الله الخبائث التي تكون في ذاتها مستقذرة كالخنازير والميتة أو التي تكون من كسب حرام كالربا والسحت ، وأكل مال الناس بالباطل . وإن من أعظم القربات بعد تقوى الله ، طلب الطيبات الحلال . وقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها ){[144]} .
ولقد أردف الله سبحانه وتعالى الأمر بالأكل من الطيبات بالأمر بالشكر ، لأن هذه الإباحة للطيبات نعمة ، والنعمة توجب الشكر من المنعم ، الذي أباح ومكن ، والشكر يكون بترك المعاصي ولزوم الطاعات والتقوى والتقرب إليه سبحانه وتعالى ، وطلب رضوانه ، ويقول سبحانه:{ لئن شكرتم لأزيدنكم . . . 7} [ إبراهيم] ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ){[145]} .
وإن هذه المباحات نعم الله تعالى في هذه الدنيا يسأل عن حقها وعن شكرها ، فقد قال تعالى:{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم 8} [ التكاثر] وإن الشكر هو الطاعات الكاملة ، والعمل الصالح ، وإن ذلك شريعة الرسائل الإلهية كما قال تعالى:{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم 51} [ المؤمنون] .
وقوله تعالى:{ كلوا من طيبات ما رزقناكم} أضيفت الطيبات ، وهي إضافة تشير إلى المصدر ، وهو إنعام المنعم ، لأن الطيبات مما رزق الله تعالى ، ومما تمكن عباده منه ، فكان هنا نعمتان أنعم الله تعالى بهما ، وهما:نعمة الرزق والعطاء ، ونعمة الإباحة للطيبات ، وكان الشكر على النعمتين واجبا .
ولذا قال تعالى:{ واشكروا لله} أي اشكروا الله ، وقد بينا أن "شكر"تتعدى باللام ، وهو الأفصح ، وتتعدى بنفسها ، وأن الشكر ملازم للعبادة أو هو منها ، أو هو هي ، ولذا قال تعالى:{ إن كنتم إياه تعبدون} أي إن كنتم تعبدونه وحده من غير إشراك غير ، وتقديم الضمير على الفعل للإشارة إلى اختصاصه تعالى بالعبادة وحده . اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمائك وراضين في السراء والضراء .