)وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) ( البقرة:207 )
التفسير:
لما ذكر الله حال المنافقين الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا وهم ألد الخصام ؛والذين إذا تولوا سعوا في الأرض فساداً ليهلكوا الحرث ،والنسل - والله لا يحب الفساد - ذكر حال قوم على ضدهم ؛وهكذا القرآن مثاني تثَنَّى فيه الأمور ؛فيؤتى بذكر الجنة مع النار ؛وبذكر المتقين مع الفجار ...لأجل أن يبقى الإنسان في روضة متنوعة ؛ثم ليبقى الإنسان بين الخوف ،والرجاء - لا يغلب عليه الخوف فيقنط من رحمة الله - ؛ولا الرجاء فيأمن مكر الله ؛فإذا سمع ذكر النار ،ووعيدها ،وعقوبتها أوجب له ذلك الخوف ؛وإذا سمع ذكر الجنة ،ونعيمها ،وثوابها أوجب له ذلك الرجاء ؛فترتيب القرآن من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى ؛وهو الموافق لإصلاح القلوب ؛ولهذا نرى من الخطأ الفادح أن يؤلف أحد القرآن مرتباً على الأبواب والمسائل كما صنعه بعض الناس ؛فإن هذا مخالف لنظم القرآن ،والبلاغة ،وعمل السلف ؛فالقرآن ليس كتاب فقه ؛ولكنه كتاب تربية ،وتهذيب للأخلاق ؛فلا ترتيب أحسن من ترتيب الله ؛ولهذا كان ترتيب الآيات توقيفياً لا مجال للاجتهاد فيه ؛وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت الآية قال: «ضعوا هذه الآية في مكان كذا من سورة كذا »{[346]} .
قوله تعالى:{ومن الناس من يشري نفسه}؛هذا هو القسيم لقوله تعالى:{ومن الناس من يعجبك ...} [ البقرة: 204]؛وعلى هذا تكون{مِن} للتبعيض ؛والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ؛و{من يشري} مبتدأ مؤخر .
وقوله تعالى:{من الناس}: قال بعض المفسرين: إنها تعني شخصاً معيناً ؛وهو صهيب الرومي لما أراد أن يهاجر من مكة منعه كفارها ،وقالوا: لا يمكنك أن تهاجر أبداً إلا أن تدع لنا جميع ما تملك ؛فوافق على ذلك ،وأنقذ نفسه بالهجرة ابتغاء مرضاة الله ؛وقال بعض العلماء - وهم أكثر المفسرين -: بل هي عامة لكل المؤمنين المجاهدين في سبيل الله ؛قالوا: ودليل ذلك قوله تعالى:{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} [ التوبة: 111]؛وهذا القول أصح ؛وهو أنها للعموم حتى لو صح أن سبب نزولها قصة صهيب ؛فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وقوله تعالى:{من يشري نفسه} أي يبيعها ؛لأن «شرى » بمعنى باع ،كقوله تعالى:{وشروه بثمن بخس} [ يوسف: 20] أي باعوه بثمن بخس ؛أما «اشترى » فهي بمعنى ابتاع ؛فإذا جاءت التاء فهي للمشتري الآخذ ؛وإذا حذفت التاء فهي للبائع المعطي ؛و{نفسه} يعني ذاته .
قوله تعالى:{ابتغاء مرضات الله} أي طلباً لمرضات الله ؛فهي مفعول لأجله ؛و{مرضات الله} أي رضوانه أي يبيع نفسه في طلب رضا الله عزّ وجلّ - ؛فيكون قد باع نفسه مخلصاً لله في هذا البيع .
قوله تعالى:{والله رؤوف} أي ذو رأفة ؛و«الرأفة » قال العلماء: هي أرق الرحمة ،وألطفها ؛و{بالعباد} أي جميعهم .
وفي قوله تعالى:{رؤوف} قراءتان ؛إحداهما: مد الهمزة على وزن فعول ؛والثانية قصرها على وزن فعُل .
الفوائد:
1- من فوائد الآية: تقسيم الناس إلى قسمين ؛القسم الأول:{ومن الناس من يعجبك قوله} [ البقرة: 204]؛والقسم الثاني:{ومن الناس من يشري نفسه} .
2- ومنها: بلاغة هذا القرآن حيث يجعل الأمور مثاني ؛إذا جاء الكلام عن شيء جاء الكلام عن ضده .
3- ومنها: فضل من باع نفسه لله ؛لقوله تعالى:{ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} .
4- ومنها: الإشارة إلى إخلاص النية ؛لقوله تعالى:{ابتغاء مرضات الله} .
5- ومنها: إثبات الرضا لله ؛لقوله تعالى:{مرضات الله}؛ورضا الله صفة حقيقية لله عزّ وجلّ متعلقة بمشيئته ؛وينكرها الأشاعرة وأشباههم من أهل التعطيل ؛ويحرفون المعنى إلى أن المراد برضا الله إما إثابته ؛أو إرادة الثواب .
6- ومنها: استحباب تقديم مرضاة الله على النفس ؛لأن الله ذكر ذلك في مقام المدح ،والثناء .
7- ومنها: إثبات الرأفة لله ؛لقوله تعالى:{والله رؤوف بالعباد} .
8- ومنها: عموم رأفة الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{بالعباد}؛هذا إذا كان{العباد} بالمعنى العام ؛أما إذا قلنا بالمعنى الخاص فلا يستفاد ذلك ؛واعلم أن العبودية لها معنيان: خاص ؛وعام ؛والخاص له أخص ؛وهو خاص الخاص ؛فمن العام قوله تعالى:{إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [ مريم: 93] ؛وأما الخاص فمثل قوله تعالى:{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} [ الفرقان: 63]؛المراد بهم عباد الرحمن المتصفون بهذه الصفات ؛فيخرج من لم يتصف بها ؛وأما الأخص مثل قوله تعالى:{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [ الفرقان: 1]؛هذه عبودية الأخص - عبودية الرسالة - .