[ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله] بعد أن ذكر الله سبحانه بعض الناس الذين يعدون داء الجماعات التي تؤدي إلى الفساد ، وإلى الهلاك ، وحالهم إذا تولوا حكم الناس ، ذكر أهل الفضل الذين يعدون دواء هذا الداء ، وعلاج ذلك المرض الفتاك ، وصلاح ذلك الفساد ، فإنه إذا كان طغيان بعض الولاة هو الذي يؤدي إلى هلاك الحرث والنسل ، فأولئك الأبرار الذين يجاهدون الطغيان هم الذين يقفون تياره ، و يصدعون بأمر الله ، وهم الذين باعوا أنفسهم مجاهدين ناطقين بكلمة الحق ، ولذا قال سبحانه:[ و من الناس من يشري نفسه] أي يبيع نفسه لله سبحانه ، فيفدي دين الله والحق بنفسه وماله وكل ما يملك ، وفي ذكر الفريق المقابل لأهل الشر بذلك الوصف الذي يشعر بأن أخص حالهم بذل النفس والنفيس ، لا مجرد الإخلاص والبراءة من النفاقإشارة إلى عظم المهمة الملقاة على عاتقهم ، وهي مجاهدة الشر والتغلب عليه ، وإزالة أوضاره ، فإن ذلك يقتضي التعرض للأذى ، بل للتلف ، ومن قتل في سبيله قتل شهيدا ، بل إنه يكون أفضل الشهداء ، كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم{[253]} .
وإن هذا الذي يبيع نفسه لله سبحانه ، ويفدي الحق بنفسه وماله ، لا يطلب إلا ثمنا واحدا ، هو أعلى الأثمان ، وهو رضا الله سبحانه وتعالى ، ولذا قال سبحانه فيما يطلبه:[ ابتغاء مرضات الله] الابتغاء:الطلب الشديد والرغبة القوية الصادقة ، ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا ، ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه ، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين التعبير بالمصدر الميمي وغيره ، والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعا قائما متحققا في الوجود ، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجردا ، فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول ، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجردا من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أولا ، أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق ، أو في صورة الموجود المتحقق ، وعلى ذلك يكون معنى [ ابتغاء مرضات الله] أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلبا موثقا رضا الله سبحانهحقيقة واقعة مؤكدة ، ويتصورون رضاه سبحانه حقيقة قائمة قد حلت بهم ، فيشتد طلبهم ، وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم .
و أولئك الذين باعوا أنفسهم لله ، وافتدوا الحق بأموالهم وأنفسهم ، هم حجة الله القائمة في عهد الظلم والظلمات ، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يبتلي الجماعات بأهل الشر والطاغوت ، وحكم الظالمين ، فإنه يرسل في هذا البلاء أولئك الذين ندبوا أنفسهم للحق يدعون عليه ، ويجهرون به ، ويجاهدون في سبيل الله لرفع مناره ، وجعل كلمة الله هي العليا ، وعندئذ يكون معهم كل من يميل إلى الحق قلبه ، بين هؤلاء قوم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .
وبذلك يكون الناس أربع طوائف:
أولها – أهل الشر الطاغون ، الظالمون .
و ثانيتها – أهل العدل الذين يفتدون الحق بأنفسهم وأموالهم ، ويطرحون كل هوى لهم في سبيل رضا الله وإقامة الحق .
و ثالثتها – أولئك الذين يتبعونهم وإن لم يبلغوا شأوهم ، ولم يفتدوا الحق مثل افتدائهم .
و رابعتها – أولئك الذين ينظرون ، ويتبعون الفريق الغالب في هذه المعركة التي تقوم بين الخير والشر ، وأولئك هم الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم الإمعة ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن مسلكهم ، فقال:"لا تكونوا إمعة ، تقولون إن أحسن الناس أحسناوإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم ، إن أحسن الناس تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا{[254]} .
[ والله رءوف بالعباد] ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتلك الكلمة السامية ، للإشارة إلى أمور ثلاثة وصلت إليهامداركنا:
أولها – إن الله سبحانه وتعالى من رحمته بعباده جعل الخير القوي بجوار الشر المندفع ، فهدى الله أهل الخير الأقوياء إلى مدافعة أهل الشر الطغاة ، ولولا ذلك لعم الفساد ، وهلك العباد ،[ و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . . .251] ( البقرة ) .
و ثانيها – الإشارة إلى أن الغلب للحق دائما ، لأن ذلك من دواعي رأفته ورحمته بعباده ، والحق الذي يجيء بالمغالبة حق قوي عزيز يعض عليه بالنواجذ ، وفيه إعلان لغلبة المعاني الإنسانية على النواحي الحيوانية .
و ثالثها – إن من رحمة الله بعباده ألا يمكن للظالمين ، وأن يمكن للعادلين ، فإن الحكم العادل يكون رحمة بالناس ورفقا بهم ، والحاكم العادل ظل الله في أرضه ، ورحمته بخلقه ، وتسليط الظالمين من أمارة غضب العلي الحكيم .
ثم في تذييل الآية ذلك التذييل فوق ما سبق دعوة إلى الرحمة بالناس والرفق بهم والحدب عليهم ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ، ومن ولي من أمر أمتيشيئا فرفق بهم فارفق به"{[255]} اللهم هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا .