[ وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد] هذه حال الطغاة يرتكبون ما يرتكبون ، وينزلون بالناس ما ينزلون ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا ، وإذا كانت النوازل تنزل بالضعفاء لم يلتفتوا إليها لعماية الطغيان وفساد البصر والمدارك ، فإذا تقدم أحد الناس مرشدا واعظا نهروه ، وربما امتدت إليه أيديهم بالأذى ، وأخذتهم العزة ، أي الاستعلاء الجاهلي وحماقة الكبرياء ، ودفعتهم الجرائم إلى إثم آخر فوق إثم الطغيان ، و فوق ما ارتكبوا من آثام ، وما أنزلوا بالضعفاء من آلام .
والباء في قوله تعالى:[ بالإثم] إما أن تكون بمعنى المصاحبة والاقتران ، والمعنى على هذا أخذتهم العزة واستولت عليهم مقترنة بالإثم مصاحبة له ، فهي ليست عزة محمودة ، بل كبرياء مبغوضة ، أو تكون الباء للسببية بمعنى لام التعليل ، ويكون المعنى:أخذتهم العزة الغاشمة والعنجهية الظالمة بسبب الإثم الذي استغرق قلوبهم وأحاط بنفوسهم ، أي أنهم لفرط ما ارتكبوا من آثام ، قد أحاطت بهم خطيئاتهم فسدت مسارب الهداية إلى قلوبهم ، فإذا سمعوا كلمة الرشاد لم يتقبلوها ، وأنغضوا رءوسهم حاسبين أن ذلك إهانة لسلطانهم ، وإصغارلشأنهم ، وما هو في حقيقة الأمر إلا حماية للسلطان ، وإكبار للأمر ، وخصوصا إذا كان من ناصح أمين .
و إذا كانت تلك حالهم فلا صلاح لهم في الدنيا ، وهم في إحدى حالين وكلتاهما نتيجتها السوءى:إما أن يديل الله منهم في الدنيا ، ويجعلهم عبرة المعتبرين ، ويذيقهم وبال أمرهم في الدنيا ، وتمامه في الآخرة . . وإما أن يمهلهم ويملي لهم حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، ويلقى بهم في نار جهنم ، ولذا قال سبحانه:[ فحسبه جهنم ولبئس المهاد] ، الفاء هنا للإفصاح ، لأنها تفصح عن شرط مقدر ، أي إذا كانت هذه حال ذلك الطاغي الفاجر:لا يقيم الحق ، بل يفسد ، ولا يطيع الناصح ، بل يؤذيه ، وربما يقتله ، فالله كافيه ومتوليه ، وهو العزيز المنتقم الجبار ، والله سبحانه ينزل به العذاب الأليم ، بإلقائه في نار الجحيم ، فمعنى [ فحسبه جهنم] أي جهنم هي التي تكفيه ، بدل كلمة الحق التي كانت تؤذيه ، [ و لبئس المهاد] اللام هنا تنبئ عن قسم مقدر وهي داخلة على جوابه ، والمهاد جمع مهد وهو المكان المهيأ للنوم ، والتعبير عن جهنم بأنها بئس المهاد لا يخلو من تهكم بأولئك الفاجرين ، كما يقال:( تحية بينهم ضرب وجيع ) وكقوله تعالى:[ فبشرهم بعذاب أليم 24] ( الانشقاق ) .
و بعد ، فإن أول مظاهر الطغيان صم الآذان عن سماع كلمة الحق ، ولعل الإمارة الظاهرة للحاكم العادل هي سماعه النقد والملام ، فضلا عن الوعظ والإرشاد ، وأمارة الحاكم الطاغي تبرمه بنصح الناصحين ونقد الناقدين فضلا عن لوم اللائمين ، والمثل في التاريخ كثيرة مستفيضة ، يروى أن رجلا قال لعمر بن الخطاب أمثل الحكام:اتق الله ، فقال بعض الحاضرين أو تقول لأمير المؤمنين:( اتق الله ) فالتفت الفاروق ، وقال:ألا فليقلها ، لا خير فيكم إذا لم تقولوها ، ولا خير فينا إذا لم نسمعها ! وعمر هذا هو الذي صاح عندما تولى:من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه فقال أعرابي:والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا! فقال أبو حفص:الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر إذا اعوج !
و لو تنزلنا عن مقام عمر مقام الصديقين لوجدنا من بعض الحاكمين حتى في عصور الاستبداد من يستمع إلى كلمة الحق أحيانا ، يروي التاريخ أن يهوديا له حاجة تلقى هارون الرشيد ، وهو خارج ، وقال له:اتق الله يا أمير المؤمنين وذكر حاجته ، فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا ، ثم أمر فقضيت لليهودي حاجته ، فقيل له:يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك لقول يهودي! قال:لا ، ولكن تذكرت قول الله تعالى:[ و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد] .
و بجوار هذه الذكريات العطرة ، توجد صورة معتمة ، ومن ذلك ما قاله أحد ملوك بني أمية:من قال لي:اتق الله قطعت عنقه .
بل إن هذه الصور المعتمة هي التي يسود بها تاريخ المستبدين ، فإن لم يقولوها بلسان المقال قالوها بلسان الفعال ، وهو أقوى أثرا وأبعد طغيانا ، ولذلك كان من الجهاد في سبيل الله:أن يقول المؤمن لهم كلمة الحق ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل الجهاد كلمة حق لسلطان جائر "{[252]} .