ذكر من صفة المفسد ما يميز بينه وبين المخطئ فقال:{ وإذا قيل له اتق الله أخذنه العزة بالإثم} أي أنه إذا أمر بمعروف أو نهي عن منكر يسرع إليه الغضب ، ويعظم عليه الأمر ، فتأخذه الكبرياء والأنفة ، وتخطفه الحمية وطيش السفه ، فيكون كالمأخوذ بالسحر ، لا يستقيم له فكر ، لأنه مصر على إفساد لا يبغي عنه حولا ، وعبر عن الكبرياء والحمية بالعزة ، للإشعار بوجه الشبهة للنفس الإمارة بالسوء وهو تخيلها النصح والإرشاد ذلة تنافي العزة المطلوبة .
قال شيخنا:هذا الوصف ظاهر جدا في تفسير التولي بالولاية والسلطة ، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة ، أو يحذر من مفسدة ، لأنه يرى أن هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجعله أعلا الناس رأيا وأرجحهم عقلا ، بل الحاكم المستبد الذي لا يخاف الله تعالى يرى نفسه فوق الحق كما أنه فوق أهله في السلطة ، فيجب أن يكون أفن رأيه خيرا من جودة آرائهم ، وإفساده نافذا مقبولا دون إصلاحهم ، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له:اتق الله في كذا ؟ وأن الأمير منهم ليأتي أمرا فيظهر له ضرره في شخصه أو في ملكه ويود لو يهتدي السبيل إلى الخروج منه فيعرض له ناصح يشرع له السبيل فيأبى سلوكها ، وهو يعلم أن فيها النجاة والفوز إلا أن يحتال الناصح في إشراعها فيجعله بصيغة لا تشعر بالإرشاد والتعليم ، ولا بأن السيد المطاع في حاجة إليه{[142]} .
وقد عرضت نصيحة على بعضهم مع ذكر لفظ النصيحة بعد تمهيد له بالحديث ( الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ){[143]} وبيان معناه ، فعظم عليه أن يقول أحد أنني أنصح لك لأنك إمامي وكان ذلك آخر عهد الناصح به{[144]} ، فانظر كيف لم يرض حاكم مسلم بأن يبذل له ما يجب أن يبذل لله والرسول وللأئمة ، وقد كان العلماء ينصحون للخلفاء وملوك المسلمين ، فيأخذون بالنصح بحسب مكانهم من الدين ، وأما الطغاة البغاء الذين ليس لهم من الإسلام إلا ما يخدعون به العامة من إتيان المساجد في الجمع والأعياد والمواسم المبتدعة ، فأنهم يؤذون من يشير إشارة ما إلى أنهم في حاجة إلى تقوى الله في أنفسهم ، أو في عيال الله الذين سلطوا عليهم ، وإن لم يبق لهم من السلطان والحكم ما يمكنهم من كل ما يهوون من الإفساد والظلم ، وإذا كان هذا شأن أكثر الملوك والأمراء الذين ينسبون إلى الدين ويدعون اتباعه فهل تجد دعوى فرعون الألوهية غريبا عجيبا ؟ .
وحمل التولي على الوجه الآخر لا يتنافى مع أخذ العزة بالإثم من جزاء الأمر بالتقوى ، فإن في طبع كل مفسد النفور ممن يأمر بالصلاح والاحتماء عليه ، لأنه يرى أمره بالتقوى والخير تشهيرا به ، وصرفا لعيون الناس إلى مفاسده التي يسترها بزخرف القول وخلابته ، ولكن التعبير أظهر في إرادة الولاة والسلاطين .وقد يبلغ نفور المفسدين في الأرض من الحق والداعين إلى الخير إلى حد استثقالهم والحقد عليهم ، والسعي في إيذائهم وإن لم يأمرهم بذلك ، إذ يرون أن الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر على إطلاقهما كافيان في فضيحتهم ، وذاهبان بخلابتهم ، فلا يطيقون رؤية دعاة الخير ولا يرتاحون إلى ذكرهم ، بل يتتبعون عوراتهم وعثراتهم ليوقعوا بهم وينفروا الناس عن دعواتهم ، فإن لم يظفروا بزلة ظاهرة التمسوها بالتحريف والتأول ، أو الاختراع والتقول ، ولذلك تجد طعن المفسدين في الأئمة المصلحين ، من قبيل طعن الكافرين في الأنبياء والمرسلين:إن فلانا مغرور ، لا يعجبه أحد ، خطأ جميع الناس ، وصفهم بالضلال ، سفه أحلامهم ، شنع على أعمالهم ، فرق بينهم ، وما أشبه هذا .
هذه آثار المفسدين في الأرض عند العجز عن الإيقاع بالآمر بالتقوى ، وإن قدروا حبسوا وضربوا ، ونفوا وقتلوا ، ولذلك قال عز وجل فيمن يأنف من الأمر بالتقوى{ فحسبه جهنم} أي هي مصيره وكفاه عذابها جزاء على كبريائه وحميته الجاهلية ، ثم وصف جهنم وهي دار العذاب في الآخرة بقوله:{ ولبئس المهاد} المهاد الفراش يأوي إليه المرء للراحة ، واللام واقعة في جواب قسم محذوف ، فالله تعالى يقسم تأكيدا للوعيد بأن الذي يرى عزته مانعة له عن الإذعان للأمر بتقوى الله سيكون مهاده ومأواه النار ، وهي بئس المهاد وشره ، لا راحة فيها ، ولا اطمئنان لأهلها .وقال بعض المفسرين إنه عبر بالمهاد الذي هو مظنة الراحة للتهكم .
وأنت ترى من هذا التقرير ومن كون التقسيم حقيقيا في نفسه شارحا لما عليه البشر في حياتهم ، متصلا بما قبله ملتئما معه في السياق أن الكلام عام ، وما روي من أن له سببا خاصا لا ينافي عمومه .وقد اختلفوا في السبب للآيات فروى ابن أبي حاتم من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في رجلين من المنافقين قالا لما هلكت سرية المسلمين:يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا ، لا هم قعدوا في أهليهم ، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم .وروى ابن جرير عن السدي أنها نزلت في الأخنس بن شريق أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر له الإسلام فأعجبه ذلك منه ، ثم خرج فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر .فإن صحت الروايتان فالظاهر أن من جعلهما سببا حمل الآيات عليهما في الجملة ، وإلا فأنت ترى أن الآيات ليست مطابقة للحادثين ، اللتين إن صحتا كانتا في وقتين متباعدتين ، فإن الأخنس من مشركي مكة .