وانظر ما قاله عز شأنه في وصف فريق الدعاوى العريضة ، والقلوب المريضة ، قال:{ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها} في تفسير التولي هنا قولان أحدهما:أن صاحب الدعوى القولية إذا أعرض عن مخاطبه وذهب إلى شأنه فإن سعيه يكون على ضد ما قاليدعي الصلاح والإصلاح وحب الخير ، ثم هو يسعى في الأرض بالفساد ، ذلك أنه لا هم له إلا في الشهوات واللذات والحظوظ الخسيسة ، فهو يعادي لأجلها أهل الحق والفضيلة ويؤذيهم ، لأنه ألد خصم لهم للتناقض والتضاد في الغرائز والسجايا ، ويعادي أيضا المزاحمين له من أمثاله المفسدين ، فلا يكون له هم وراء التمتع وأسبابه إلا الكيد للناس ومحاولة الإيقاع بهم فهو يفسد باعتدائه على الأموال والأعراض{ ويهلك الحرث والنسل} بما يكون من أثر إفساده في اعتدائه وهو ذهاب ثمرات الحرث وهو الزرع ، والنسل وهو ما تناسل من الحيوان ، وكأنه إشارة إلى مكاسب أهل الحضارة وأهل البادية ، وفي هذا عبرة كبرى للذين يقطعون الزرع ويقتلون البهائم بالسم وغيره انتقاما ممن يكرهونهم وهي جرائم فاشية في أرياف مصر لهذا العهد ، فأين الإسلام وأين هداية القرآن ؟
وذكر الأزهري أن المراد بالحرث ههنا النساء كما في قوله:{ نسائكم حرث لكم} ( البقرة:223 ) وبالنسل الأولاد ، وهل المراد نساء الناس وأولادهم ، أم نساء المفسدين وأولادهم خاصة ؟ ولعل الأمر أعم فإن المفسدين الذين يطمحون بأبصارهم إلى نساء الناس أو يسعون في إفساد نظام البيوت بما يلقون من الفتن ويعملون من التفريق لا تكاد تسلم بيوتهم من الخراب ظاهرا وباطنا فقط فالمفسد الشرير يؤذي نفسه وأهله بضروب من الإيذاء قد يعميه الغرور عنها أو عن كونها من سعيه .وقال الأستاذ الإمام:إن إهلاك الحرث والنسل عبارة عن الإيذاء الشديد وقد صار التعبير به ذلك من قبيل المثل فالمعنى أنه يؤذي مسترسلا في إفساده ولو أدى إلى هلاك الحرث والنسل وكذلك شأن المفسدين يؤذون إرضاء لشهواتهم ولو خرب الملك بإرضائها .
والقول الآخر:أن المراد بتولى صار واليا له حكم ينفذ وعمل يستبد به ، وإفساده حينئذ يكون بالظلم مخرب العمران وآفة البلاد والعباد ، وإهلاكه الحرث والنسل يكون إما بسفك الدماء والمصادرة في الأموال ، وإما بقطع آمال العاملين من ثمرات أعمالهم ، وفوائد مكاسبهم ، ومن انقطع أمله انقطع عمله إلا الضروري الذي به حفظ الذمام ، ولا حرث ولا نسل إلا بالعمل .وقد شرحت لنا حوادث الزمان وسير الظالمين هذه الآية فقرأنا وشاهدنا أن البلاد التي يفشو فيها الظلم تهلك زراعتها ، وتتبعها ماشيتها ، وتقل ذريتها ، وهذا هو الفساد والهلاك الصوريان .ويفشو فيها الجهل ، وتفسد الأخلاق ، وتسوء الأعمال حتى لا يثق الأخ بأخيه ، ولا يثق الابن بأبيه{[141]} فيكون بأس الأمة بينها شديدا ولكنها تذل وتخنع للمستبدين لها وهذا هو الفساد والهلاك المعنويان ، وفي التاريخ الغابر والحاضر من الآيات والعبر ، ما فيه ذكرى ومزدجر .
ولما كان هذا المفسد يشهد الله على هداية قلبه ، وعند من يظن أنه يجهل حقيقة أمره ، قال تعالى بعد بيان عمله في الإفساد{ و الله لا يحب الفساد} أي إن إفساد هذا المنافق ظاهر في الوجود ، والظاهر عنوان الباطن ، فإفساده في عمله دليل عل فساد قلبه وكذبه في إشهاد الله عليه{ والله لا يحب المفسدين} ( المائدة:63 ) لأنه لا يحب الفساد .وفي الآية دليل على أن تلك الصفات الظاهرة المحمودة لا تكون محمودة مرضية عند الله تعالى إلا إذا أصلح صاحبها عمله فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال ، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال ، وهي ترشدنا إلى التمييز بين الناس بأعمالهم وسيرتهم وعدم الاغترار بزخرف القول فإن الناس إذا انصرفوا من مجالس القول لم يكن لهم بد من سعي وعمل ، والعمل إما خير وإصلاح ، وإما شر وإفساد ، وكل إناء ينضح بما فيه .
ولما كان الإفساد يصدر تارة عن الجهل وسوء الفهم ، وأحيانا عن فساد الفطرة وسوء القصد ، وكان من يعمل السوء بجهالة سريع التوبة ، مبادرا إلى قبول النصيحة ، وكأن شأن الآخر الإصرار على ذنبه ، كالمستهزئ بربه .