[ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد] في هذه الآية الكريمة بيان الغاية التي تغياها من يريد أن يخدع الناس ، فهو يخدعهم ليمكن لأهوائه وشهواته . وإذا تمكنت الأهواء والشهوات واندفاع الشخص في اجتراعها ، يشتار عسلها{[250]} من غير دين رادع ، ولا حكم زاجر – سرى الفساد في جسم الأمة كما يسري الداء العضال في جسم المريض ، وبذلك يهلك الحرث والنسل ، أي يهلك الزرعوالحيوان ، وفيهما جماع حاجات بني الإنسان ، فما من أمر يحتاج إليه الإنسان في مقومات جسمه إلا كان من الحيوان أو من النبات ، وهلاكهما كناية عن الخراب العام ، والضيق الشديد ، والفساد المستحكم ، وضياع المصالح .
و الحرث:مصدر حرث يحرث ، بمعنى أثار الأرض لإعدادها للزراع ثم أطلق وأريد به المحروث وهو الأرض نفسها ، ثم أطلق وأريد به ثمرات الحرث وهو الزرع الذي حان حصاده ، والثمر الذي آتى أكله ، والمراد به هنا ذلك .
والنسل في أصله:مصدر نسل ينسل بمعنى خرج وسقط ، ومنه قوله تعالى:[ إلى ربهم ينسلون 51] ( يس ) وقوله تعالى:[ من كل حدب ينسلون 96] ( الأنبياء ) ، أي يخرجون ، ثم أطلق على خروج الحيوان{[251]} من بطن أمه وولادته ، ثم أطلق وأريد به ذات الحيوان الوليد .
و في التعبير بهلاك الحرث والنسل بسبب استحكام الشهوات وسيطرة أهل الأهواء ، إشارة كما قلنا إلى عموم الفساد في المدائن والقرى ، وبين أهل الزرع وسكان البوادي ، أي بيان عموم الشر للحاضرة والبادية ، لأن هلاك النسل رمز لهلاك ما تقوم عليه الباديةوما به قوام حياتها ، إذ إن رأس مال البادية النعم من الإبل والبقر والغنم وأخواتها ، وقيام الثروة في سواد الأرض الزرع وما تنتجه الأرض ، فإذا هلك الأمران بسبب استحكام الأهواء والشهوات ، فقد عم الفساد ، وهلك العباد .
و قوله تعالى:[ و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها] قد قال العلماء فيه إن التولي يحتمل أحد أمرين:إما أن يكون معناه الانصراف والذهاب بعد أن خدع الناس بحلو القول وأقسم بالأيمان المغلظة الكاذبة وجادل وناضل فيما يدعيه من حب للخير والإخلاص ، وإما أن يراد به التولي بمعنى الولاية والإمرة على الناس ، ولقد قال العلماء إن الآية الكريمة تحتمل الأمرين كما نوهنا .
و على الأمر الأول يكون المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده:إن ذلك الذي يدعي الصلاح والإصلاح ، وحب الخير والمنفعة ، ويعلن ذلك بحلو اللسان ، ويقسم عليه الأيمان ، ويجادل عنه بأبلغ البيانإذا تفرقت المجالس ، وانصرف إلى العمل ، بدت طويته ، وظهرت نبته ، وانكشفت سريرته ، فاندفع إلى الشهوات ينال منها ، وقد ترك قوله دبر أذنه ، وما قال ما قال إلا ليكيد أو ليخفي حقيقة أمره ، فيكون منه الشر والفساد ، وإذا كثر من على شاكلته فسدت الحال ، وكانت العاقبة السوءى .
و على الأمر الثاني ، وهو يكون معنى تولى صار واليا:أن هذا الذي اجتذب ثقة الناس بالأماني البراقة ، والأقوال الخادعة والأيمان الكاذبة واللسن في الجدل إذا تحققت بغيته ، ونال طلبه ، وصار واليا على الناس ، لا يسعى لنفعهم ، ولا يقيم الحق بينهم ، بل يسعى لإشباع رغباته ، ويحكم الناس لنفسه لا لهم ، والفاصل بين الحكم العادل والحكم الظالم أن الحاكم العادل يعتقد أنه تولى أمر الناس لتكون ثمرة الحكم للناس ، كما كان الشأن في أبي حفص عمر رضي الله عنه ، وأما الحاكم الظالم فهو الذي يحكم الناس لتكون الثمرة له ومن معه ، وأمثلة ذلك في التاريخ كثيرة لا يحصيها العد .
و هذا الخادع الكاذب المجادل المرائي يكون حكمه الناس لنفسه لا لهم ، ومن ثم تحكم رغباته وأهواؤه ، ومن حكمت رغباته وأهواؤه فإن سعيه لا محالة يؤدي إلى الفساد ، لا إلى الصلاح ، لأن الطمع يلد الطمع ، والهوى يلد الهوى فتتسلسل الأهواء في سلسلة أولها إعجاب بالنفس وزهو وخيلاء ، وآخرها ضياع وفساد ، وهلاك للحرث والنسل ، ثم ذل واستخذاء .
و اللام في قوله تعالى:[ ليفسد فيها] هي التي يسميها العلماء لام العاقبة أي أنها تشير إلى أن العاقبة – في عمل المتولي الذي يحكم الناس لنفسه ولرغباته وأهوائه لا لمصالحهم ونفعهم-هي الفساد في الأرض ، والهلاك العام لكل ينابيع الثروة في البلاد ، والله يتولى برحمته العباد .
ونحن نختار أن يكون معنى التولي هو صيرورته واليا ، لأن ذلك هو الذي يتفق مع الآية الآتية ، وهي قوله تعالى:[ و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم] .
و قد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله:[ و الله لا يحب الفساد] وذلك لعدة أمور:
أولا – لبيان أن الله لا يحب ذلك الصنف من الناس الذي يخدع الناس ويكذب على الله ، ويجادل ويماري ، ويضل عن بينة ، ويسعى في الأرض بالفساد ، إذ الله لا يحب الفساد فلا يحب المفسدين ، ومن لا يحبه الله فهو بعيد عن رحمته ، معرض لنقمته .
ثانيا- ولبيان أن الله سبحانه وتعالى لا يريد بما فرض من عبادات إلا مصلحة الناس ودفع الضر عنهم ، فهو الغني الحميد الذي لا يكسب من عبادة عابد ، ولا يضار من فسق فاسق ، إنما الأمر في ذلك إلى مصلحة الناس ودفع الضر عنهم .
ثالثا – وفوق ذلك هذا التذييل يدل على أن شرع الله كله أساسه إقامة المصلحة ودفع المضرة ، فما من أمر شرعه الله إلا فيه جلب نفع أو دفع ضرر ، وأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع ، وأن دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص ، وأن جلب المنفعة العامة مقدم على جلب المنفعة الخاصة .
رابعا- وأن هذا التذييل فوق ذلك يشير إلى أن الله سبحانه استخلف الإنسان في هذه الأرض ليعمرها لا ليفسدها ، فأولئك الذين يبذلون الجهود العقلية ليصلوا إلى ما يدمر الأرض ويخربها ويجعلوا عاليها سافلها قد ضلوا عن سنة الله ، وخرجوا على قانون الفطرة وهم بعيدون عن محبة الله ، لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون .