ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ( 204 )
يبين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بعض العبادات التي تطهر النفوس وتزكي القلوب ، وتحمي الجماعات وتوجهها نحو الخير العميم ، فذكر الصدقات ثم ذكر الصوم ، ثم ذكر الحج الذي تتلاقى فيه القلوب وتلتقي فيه وفود الجماعات الإسلامية من كل فج عميق في الساحة الربانية ، وقد ذكر في طي الكلام أصناف الناس في أدعيتهم التي تكشف عن خبايا قلوبهم ، وأن منهم من يطلب الدنيا ، ولا غاية له وراءها ، ومنهم من يقول:[ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار 201] ( البقرة ) .
والعبادات أيا كان نوعها دواء الجماعة وبلسم القلوب الشافي ، وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الدواء الناجع ذكر سبحانه داء الجماعات المستحكم ، ومرضها الممض ، وهو النفاق ، وخلابة اللسان مع فساد القلب والمظهر الحسن مع القصد السيئ ، ومحالة اجتذاب الناس بالقول المعسول مع فعله المرذول حتى إذا نال ثقتهم ملأ الدنيا بالشر ، وظهر الفساد في البر والبحر .
و هكذا يذكر الله سبحانه دواء القلوب ، ويذكر داءها ، ليطب كل امرئ لنفسه بما يداويها ، وتطب الجماعة لنفسها باجتثاث الشر من بين ربوعها ، ونفي الخبث عنها كما ينقي الكير خبث الحديد .
و هذا التداوي يقوم به فريق الخير الذي نصبه الله سبحانه حجة للحق ومنارا للشرع ، وهذا ما ترمي إليه الآيات الكريمات:[ و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا] إلى آخر الآيات المذكورات .
و قد ذكر الله سبحانه في هذه الآيات أن الناس فريقان:فريق الشر أهل النفاق ، وهم الداء ، وهم درن الأمة ، بل السرطان الذي يقضي عليها ، إن لم يجتث من أصله . والفريق الثاني ، وهم الذين يتولون العلاج وهم الأخيار الذين شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله .
و قد ابتدأ سبحانه بذكر الداء ، ليعلم أهل الخير مقدار ما يبتلون به ، وقد ذكر صفات أهل الشر ، فكانت ثلاثة:
أولها:حسن البيان والقول الحلو .
و ثانيها:كثرة الحلف الكاذب .
و ثالثها:اللدد في الخصومة .
[ و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا] هذه هي الصفة الأولى ، وهي أصل الداء القاتل وقوته ، فإن خلابة اللسان المنافق ، وقوة البيان الكاذب ، وحسن العرض للقول الباطل ، هي المعاول القوية التي يرفعها المبطلون لهدم الفضائل ، فهم بمعرفتهم بمأتى القول ومورده يثيرون الإعجاب بحسن تأتيهم ، وينالون الاستحسان العظيم بلطف مداخلهم ، أو بزخرف القول وزوره ، ويسترعون ألباب بعض أهل الخير الكرام ، فالمؤمن غر كريم ، والمنافق خب لئيم{[242]} .
وقوله تعالى:[ في الحياة الدنيا] إما أن يكون متعلقا بالقول ، ويكون المعنى يعجبك قولهم الذي يكون موضوعه الحياة الدنيا ، إذ يفهمون ما فيها ولا يدركون سواها ، لأنها خلب أكبادهم ، وغاية أمورهم ، ومن أحب شيئا أحسن القول فيه ، ومن كانت الدنيا همه أحسن حكاية أمورها ، حتى إن قوله فيها ليكون عجيبا ، أما الآخرة فلا يحسن القول فيها ، لأنه لا يبتغيها ، فإن تكلم في أمر يتعلق بها اعترته حبسة وعي وحصر .
و إما أن يكون [ في الحياة الدنيا] متعلقا بالإعجاب ، أي أن قدرته على إثارة الإعجاب والاستحسان لبيانه إنما يكون ذلك في الدنيا فينتج ثمرته حيث يكون الحكم للظاهر ، ولا ينقب عن القلوب والسرائر ، كما قال عمر رضي الله عنه:أيها الناس إن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم هذا أمر الدنيا ، أما الآخرة فالحكم فيها علام الغيوب الذي يعلم ما تخفي الصدور ، فلا سبيل للخديعة بالقول ، فالله يكشف مستور القلوب ، ويحكم عليه بمقصده وغايته ، لا بقوله وإجادته .
و نحن نختار أن يكون متعلق الجار والمجرور لا القول ، لأنه الذي يتفق مع السياق ، إذ إن السياق في بيان الذين يخدعون الناس في الدنيا وقلوبهم مريضة لا بيان حال من يجيدون القول فيها ، وإن بعض الذين يجيدون القول في الدنيا أخيار لا أشرار .
هذا أول حال من أحوال الذين يظهرون ما لا يخفون ، ويقولون ما لا يفعلون .
أما الصفة الثانية فهي قوله تعالى:[ و يشهد الله على ما في قلبه] أي أن هذا الذي يثير إعجاب الناس في الدنيا بخلابة لسانه وقوله الحلو المعجب المطرب ، إن رأى الناس يتشككون في قوله أقسم بصدقه ، لأنه قد يبدو من فحوى بيانه ما يدل على جنانه كما قال تعالى سبحانه في شأن المنافقين ومن في قلوبهم مرض:[ و لتعرفنهم في لحن القول . . .30] ( محمد ) فإذا لمح المخادع من النظرات التي توجه إليه استغرابا لدعاويه ، أو استبعادا لها ، وثقها بأن أشهد الله على أن ما في قلبه يوافق ما يجري على لسانه .
فمعنى قوله تعالى:[ و يشهد الله على ما في قلبه] أنه يقسم بالله تعالى إن ما جرى على لسانه هو نفس ما يختلج قلبه ، أو ما يؤمن به . ولقد قرر علماء اللغة أن من ألفاظ القسم:الله يعلم أني فعلت كذا ، أو الله يشهد أني قلت كذا ، فهذا توكيد بالإيمان معروف في لغة العرب ، ولقد قرروا أن الحلف على هذا النحو أوكد وأوثق من القسم الصريح ، وقال بعض الفقهاء:إن من يقول كذبا:الله يشهد بكذا أو يعلم بكذا ، مؤكدا كذبه بذلك ، يعتبر مرتدا ، لأنه كذب على الله ، أو رماه بالجهل ، وعندي أن ذلك لا يعد كفرا لعدم القصد إلى ذلك المعنى الإلحادي ، ولكنه على أي حال مستهين بحق الله عليه كشأن كل حالف بالكذب ، سواء بلفظ صحيح في الحلف ، أو بلفظ يؤدي إليه .
أولئك المخادعون الذين يخدعون الناس ولا يخدعون الله هم الذين يقطعون أوصال الأمة ، وبهم تبتلى ، وبسببهم تنزل الفتن ويثور الشر ، وتذهب الثقة بين الناس ، وتقوم العداوة بينهم مقام المودة ، والبغضاء محل الإخاء ، لأنهم بخديعتهم للناس ، ثم تكشف أحوالهم بمرور الأيام تضيع الثقة ، ثم الذين يعمدون إلى تلك الأساليب الماكرة لا يبغون خيرا ، بل لا يبغون شرا ، لأن الأخيار لا يحتاجون إلى إخفاء نياتهم ، وما يجول في قلوبهم ، إن الذين يبدون ما لا يخفون هم الذين توسوس نفوسهم بالشر والهوى ، ولا يريدون أن يطلع عليه أحد ، ولذلك عرف النبي صلى الله عليه وسلم الشر بأنه:"ما حاك في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس "{[243]} ، فالشر لا يعيش إلا في كن مظلم والنور يقتله ، والخير يزيده النور وضوحا وقوة ونماء ، ومن كان الشر غايته فهو عنصر مخرب مفسد مهلك ، وهو بلاء لأمته وجماعته وأسرته ، بل بلاء على نفسه في الدنيا عندما يعلم أمره ، وفي الآخرة له عذاب أليم .
و لذلك كان أخوف ما يخافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده:رجلا عليم اللسان منافق القلب{[244]} ، فإن ذلك النوع من الرجال يثير التظنن بالصالحين ، ويفسد الأمر على المحقين ، ويجعل بأس الأمة بينها شديدا ، ولقد روى ابن جرير عن بعض الصالحين أنه قال:إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل:قوم يحتالون على الدنيا بالدين ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر ، يلبسون للناس مسوك الضأن ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، ويقول الله عز وجل:فعلي يجترئون وبي يفترون ، وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران{[245]} .
و مهما يكن من أمر ذلك الخبر ، فإن معناه متحقق سجله الإسلام ، وأثبتته الوقائع ، فما من أمة ابتلاها الله بهيمنة هذا النوع من الرجال إلا فسد أمرها ، واضطرب حالها ، وسارت في طريق أوله نفاق وفساد ، وآخره فتنة وخراب .
[ و هو ألد الخصام] هذه هي الصفة الثالثة الملازمة للمخادعين الذين يستلبون قلوب الناس من جنوبهم بحسن بيانهم وكذبهم على الله بأيمانهم ، والألد من معناه في اللغة:العوج ، وفسر بعض العلماء قوله تعالى:[ و تنذر به قوما لدا 97] ( مريم ) أي عوجا ، والمنافق ألد دائما لأنه أعوج دائما .
و اللدد من معناه اللغوي أيضا:الشدة في الخصومة والمبالغة فيها ، ويقال رجل ألد وامرأة لداء ، وقد لدد يلد –كفرح يفرح – لددا ، أي صار ألد ، ولددته ألد كنصر ينصر إذا جادله فغلبه ، وقال الزجاج في أصل اشتقاق اللدد بمعنى الشدة في الجدل والخصومة إنه مأخوذ من لديدي العنق ، وهي صفحتاه ، وتأويله أنه من أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الجدل غلب .
و الخصام – إما أن يقال إنه مصدر خاصم أي جادل أو عادى ، أو تقول جمع خصم كضخم وضخام ، وقال أبو عبيدة الأول أي أنه مصدر خاصم ، وقال الزجاج الثاني .
و المعنى على الأمرين:أن ذلك النوع من الناس الذي يحاول أن يخدع الناس بحلو لسانه ، ويضلهم بقدرة بيانه ، فيه طبع ملازم له ، وهو شدة الخصومة ، ويصح أن نفسر الخصومة بالعداوة ، كما يصح أن نفسرها بالجدل والمبالغة البيانية في ميدان المناظرات .
و على الأول أن يكون المعنى إنه شديد العداوة واللجاجة في الخصومة ، فليس هينا لينا قريب الرضا سهل الرجوع ، بل إنه لحب نفسه وكراهيته لخير الناس ، لا يصفح عمن ينال منه ولو بالحق فهو قد أكل الحقد قلبه ، واعتركت في نفسه حسكة{[246]} الحسد ، وكذلك كل شرير ، لا يحب الناس ، ولا يظهر لهم المودة إلا برئاء القول:بل ذلك شأن المجرمين ، ففي طبيعة كل مجرم بغض للمجتمع ، وكأن بينه وبين الناس ثأرا لا يطل ، وترات{[247]} يجب استيفاؤها ، وكلما انحدر في جريمة وتلقفته يد العدالة ازداد للناس كرها وعاد إلى مثلها أو أكثر ، وكذلك أولئك الذين في قلوبهم مرض ، وفي ألسنتهم حلاوة يخدعون بها الناس:يبغضون الناس ولا يحبونهم إلا بمقدار ما ينالون من أرب فيهم ، ولا يصفحون عمن ينالهم بالقصاص العادل ، ويتبعون العورات ، وهكذا هم في خصومات قلبية بينهم وبين الأخيار ، يظهرون القول الحسن ليستمكنوا من الرقاب ، ثم يشفوا غيظهم .
و على الثاني ، وهو أن يكون الخصام بمعنى المجادلة والمنازلة البيانية ،يكون المعنى:أن هؤلاء الذين يخادعون الناس بالقول الحلو ، يثيرون الإعجاب بحسن بيانهم ، ويوثقونه بالأيمان المغلظة ، ويجادلون عنه بقوة وعنف وغلب ،فالكلام يكون كله في بيان مناهجهم في خدع الناس ، وسلب ثقتهم بقول الزور ، ولذلك كان هذا المعنى أنسب للسياق .
واللدد في الجدل في ذاته صفة ملازمة للمراء والمهاترة ، لأن من يكون همه الجدل يندفع إلى تأييد مذهبه بالحق وبالباطل ، إذ لا يهمه الحق بمقدار ما يهمه انتصار فكره ، وغلبه في ميدان النزال البياني ، ولذلك كان مبغضا إلى الله ، وإلى الذين يدعون إلى الحق المجرد ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم:"إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"{[248]} ولقد كان الإمام مالك رضي الله عنه يقول:كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
وفي الحق إن أولئك الذين يحاولون أن يكسبوا قلوب الناس ليتمكنوا من رقابهم بالقول المعسول الخادع فيهم الأمران السابقان:فيهم البغض الشديد للناس ، وفرضهم أعداء وخصوما ، ولا يفرضونهم أولياء وإخوانا ، وفيهم اللدد في الجدال ومحاولة الغلب بالحق وبالباطل .
بل إن بغضهم للناس ، أو على الأقل عدم نظرتهم إليهم نظرة أخوة واصلة ، ومودة مقربة ، هي التي جعلتهم يحاولون خديعتهم بالقول البراق ، واليمين الغموس ، والجدل الذي تبرق فيه الألفاظ ، ويختفي فيه نور الحق وتنقطع به أسباب اليقين ، ولو كانوا يفرضون الأخوة الرابطة بينهم وبين الناس ، لأحبوا لهم ما يحبون لأنفسهم ، ولكرهوا ما يكرهون لهم ، ولكشفوا عن نيتهم واضحة بينة ، فالحق دائما أبلج ، والباطل لجلج{[249]} ، فحيثما كانت خديعة فثمة هوة فارقة ، لأخوة جامعة ، وحيثما كانت لجاجة فثمة حق ضائع وباطل رائج .