مع نموذجين من النّاس في مواقف الحياة:
في هذه الآيات صورة معبّرة عن نموذجين من النّاس ،لا يخلو منهما زمان ولا مكان أمام مواقف الحقّ والعدل والإيمان ،فهناك النموذج المنافق الذي يحاول أن يستغل طيبة النّاس وبساطتهم وصدقهم ،حيث يوحي إليهم بأن الذي يعايشونه طيّب وصادق ونظيف ،فيستسلمون لكلماته الحلوة ،وأساليبه الناعمة ،ومواثيقه المؤكدة التي يحاول من خلالها أن يوحي للنّاس بأنه يحمل في قلبه كلّ النوايا الخالصة والأفكار الخيّرة التي تبني للنّاس حياتهم وتوجهها إلى الطريق الحقّ والسعادة الكبيرة:] وَمِنَ النّاس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[ في دلالته على إخلاصه وأمانته وتخطيطه للعمل الصالح الذي يتصل بحياة النّاس في قضاياهم العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية ،] وَيُشْهِدُ اللّه عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ[ بالأيمان المغلظة والتأكيدات الحاسمة ،ليخضع النّاس له من باب قداسة الشهادة وعظمة الميثاق .
ويكمل القرآن الصورة من جانبها الآخر عندما ينفذ بنا إلى حياته الداخلية:] وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ[،أي: شديد الجدال والعداوة للمسلمين وللحقّ .ذلك هو واقعه في منطلقاته الفكرية والروحية الذي لن يتعرف النّاس عليه إلاَّ من خلال التجربة المرة التي تظهر كلّ ما يحمله من المعاني السيئة الشريرة التي تختبىء خلف قناع الوجه الذي يمثّل الصدق والوداعة ،أو الكلمة التي تمثّل الحقّ والبراءة ،ليتوصل من خلال ذلك إلى ما يريده من جاهٍ ومالٍ وشهوة ،حتى إذا استقام له الأمر ،وانفصل عن جوّ التمثيل ،انطلق بعيداً عن كلّ ما كان يقوله ويؤكده ويظهر به ،ليتحرّك في الأجواء الحاقدة الطاغية الباغية التي يهلك فيها الحرث والنسل .