{ ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) ( البقرة:204 )
التفسير:
فيما سبق من الآيات قسم الناس في الحج إلى قسمين ؛منهم من يقول:{ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق} [ البقرة: 200]؛ومنهم من يقول:{ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} [ البقرة: 201]؛وهؤلاء لهم نصيب مما كسبوا ؛هنا قسم الناس أيضاً إلى قسمين: إلى مؤمن ؛وإلى منافق ؛فقال تعالى في المنافق:{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا}؛{من} هنا للتبعيض ؛وهي بمعنى بعض الناس ؛ولهذا أعربها بعض النحويين على أنها مبتدأ ؛قال: لأنها حرف بمعنى الاسم ؛إذ إنها بمعنى بعض الناس ؛فيكون{من} مبتدأ ،و{من يعجبك} خبره ؛لكن المشهور أن{مِنْ} حرف جر ؛و{من الناس} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم ؛و{من يعجبك} مبتدأ مؤخر ؛يعني: ومن الناس الذي يعجبك قوله ،والخطاب في قوله تعالى:{يعجبك} إما للرسول ( ص ) ؛وإما لكل من يتأتى خطابه ؛والأولى الثاني .
وقوله تعالى:{من يعجبك قوله} ذكر بعض النحويين أنه إذا قيل: «أعجبني كذا » فهو لما يستحسن ؛وإذا قلت: «عجبت من كذا » فهو لما ينكر ؛فتقول مثلاً: «أعجبني قول فلان » إذا كان قولاً حسناً ؛و«عجبت من قوله » إذا كان قولاً سيئاً منكراً ؛فقوله تعالى:{من يعجبك قوله} أي من تستحسن قوله .
قوله تعالى:{في الحياة الدنيا} أي إذا تكلم فيما يتعلق بأمور الدنيا كأن يتكلم بشيء ،ويتوصل به إلى نجاته من القتل ،والسبي ؛لأن هذه الآية في المنافقين ؛ودليل ذلك قوله تعالى:{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} [ المنافقون: 4] من حسنه ،وفصاحته ؛ولكنهم أهل غرور ،وخداع ،وكذب ؛فإن آية المنافق ثلاث ؛منها: إذا حدث كذب .
وقوله تعالى:{في الحياة الدنيا} متعلق بمحذوف حالاً من{قوله}؛والتقدير: قوله حال كونه فيما يتعلق بالدنيا ؛لأنه لا يتكلم في أمور الدين ؛ويحتمل أن المعنى: القول الذي يعجب حتى في الدين ؛لكن لا ينتفع به في الآخرة ؛إنما ينتفع به في الدنيا فقط .
قوله تعالى:{ويشهد الله على ما في قلبه}؛اختلف المفسرون في معناها على قولين: الأول: أن المعنى استمراره في النفاق ؛لأن الله - تبارك وتعالى - يعلم ما في قلبه من هذا النفاق ؛فاستمراره عليه إشهاد لله تعالى على ما في قلبه .
والقول الثاني: أن المعنى: أن يُقسم ،ويحلف بالله أنه مؤمن مصدق ،وأن الذي في قلبه هو هذا ؛فيشهد الله على ما في قلبه من محبة الإيمان ،والتمسك به وهو كاذب في ذلك ؛ويدل لذلك قوله تعالى:{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [ المنافقون: 1] ،أي لكاذبون في دعواهم أنهم يشهدون بذلك ؛وعندي أن المعنيين لا يتنافيان ؛كلاهما حق ؛فهو منطوٍ على الكفر والنفاق ؛وهو أيضاً يُعلم الناس ،ويُشهد الله على أنه مؤمن ؛أما حقيقته قال الله تعالى فيه:{وهو ألد الخصام} يعني: أعوجهم ،وأكذبهم ؛و{الخصام} يحتمل أن يكون مصدراً ؛ويحتمل أن يكون جمعاً ؛إن كان مصدراً ففعله: خاصم يخاصم ،مثل: جادل يجادل ؛وقاتل يقاتل ؛وعلى هذا:{ألد الخصام} تكون الإضافة لفظية ؛لأنها صفة مشبهة مضافة إلى موصوفها - أي وخصامه ألد الخصام ؛وإن كان جمعاً فمفرده: خَصِم ؛فيكون المعنى أنه ألد الخصوم - أي أعوجهم ،وأشدهم كذباً ؛ويكون أيضاً من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ؛لأنَّ المعنى ؛وهو من الخصوم الأشداء الأقوياء في خصومتهم ؛وهذا الرجل صار ألد الخصام ؛لأن قوله جيد ،وبيِّن يعجبك قوله ،فتجده لاعتماده على فصاحته ،وبيانه ألد الخصام .
الفوائد:
1- من فوائد الآية: أنه لا ينبغي للإنسان أن يغتر بظواهر الأحوال ؛لقوله تعالى:{ومن الناس من يعجبك قوله}؛وكذلك من الناس من يعجبك فعله ؛ولكنه منطوٍ على الكفر - والعياذ بالله ؛ولكن لا شك أنه بالنسبة إلينا ليس لنا أن نحكم إلا بما يقتضيه الظاهر ؛لأن ما في القلوب لا نعلمه ؛ولا يمكن أن نحاسب الناس على ما في القلوب ؛وإنما نحاسبهم على حسب الظاهر .
2- ومنها: أن هذا الصنف من الناس يُشهد الله على ما في قلبه إما مما أظهره ؛وإما مما أبطنه - حسب ما سبق .
3- ومنها: الإشارة إلى ذم الجدل ،والخصام ؛لقوله تعالى:{وهو ألد الخصام}؛لأن الخصومات في الغالب لا يكون فيها بركة ؛وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم »{[345]} أي الإنسان المخاصم المجادل بالباطل ليدحض به الحق ؛وما من إنسان في الغالب أعطي الجدل إلا حرم بركة العلم ؛لأن غالب من أوتي الجدل يريد بذلك نصرة قوله فقط ؛وبذلك يحرم بركة العلم ؛أما من أراد الحق فإن الحق سهل قريب لا يحتاج إلى مجادلات كبيرة ؛لأنه واضح ؛ولذلك تجد أهل البدع الذين يخاصمون في بدعهم علومهم ناقصة البركة لا خير فيها ؛وتجد أنهم يخاصمون ،ويجادلون ،وينتهون إلى لا شيء ؛لا ينتهون إلى الحق ؛لأنهم لم يقصدوا إلا أن ينصروا ما هم عليه ؛فكل إنسان جادل من أجل أن ينتصر قوله فإن الغالب أنه لا يوفق ،ولا يجد بركة العلم ؛وأما من جادل ليصل إلى العلم ،ولإثبات الحق ،وإبطال الباطل فإن هذا مأمور به ؛لقوله تعالى:{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [ النحل: 125] .
4- ومنها: إثبات علم الله عزّ وجلّ بما في الصدور ؛لقوله تعالى:{ويشهد الله على ما في قلبه}؛لأن ما في القلب لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ .