{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام 204 وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد 205 وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد 206 ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد 207}
أرشدتنا آيات المناسك السابقة إلى أن المراد منها ومن كل العبادات هو تقوى الله تعالى بإصلاح القلوب ، وإنارة الأرواح بنور ذكر الله تعالى واستشعار عظمته وفضلهوإلى أن طلب الدنيا من الوجوه الحسنة لا ينافي التقوى بل يعين عليها ، بل هو مما يهدي إليه الدين ، خلافا لأهل الملل السابقة الذين ذهبوا إلى أن تعذيب الأجساد وحرمانها من طيبات الدنيا هو أصل الدين وأساسهوإلى أن من يطلب الدنيا من كل وجه ويجعل لذاتها أكبر همه ليس له في الآخرة من خلاق ، لأنه مخلد إلى حضيض البهيمة لم تستنر روحه بنور الإيمان ، ولم يرتق عقله في معارج العرفان .
ولما كان محل التقوى ومنزلها القلوب دون الألسنة ، وكان الشاهد والدليل على ما في القلوب الأعمال ، دون مجرد الأقوال ، ذكر في هذه الآيات أن الناس في دلالة أعمالهم على حقائق أحوالهم ومكنونات قلوبهم قسمان ، فكانت هذه متصلة بتلك في بيان مقصد القرآن العزيز وهو إصلاح القلوب ، واختلاف أحوال الناس فيها ، وما ينبغي أن يعلموه منها ، ولذلك عطفها عليها فقال:{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} يقال أعجبه الشيء إذا راقه واستحسنه ورآه عجبا أي طريفا غير مبتذل ، والخطاب عام ، وفي قوله{ في الحياة الدنيا} وجهان أحدهما:أن من الناس فريقا يعجبك قوله وأنت في هذه الحياة لأنك تأخذ بالظواهر وهو منافق اللسان يظهر خلاف ما يضمر ، ويقول ما لا يفعل ، فهو يعتمد على خلابة لسانه ، في غش معاشريه وأقرانه ، يوهمهم أنه مؤمن صادق ، نصير للحق والفضيلة ، خاذل للباطل والرذيلة ، متق لله في السر والعلن ، مجتنب للفواحش ما ظهر منها وبطن ، لا يريد للناس إلا الخير ، ولا يسعى إلا في سبيل النفع{ ويشهد الله على ما في قلبه} أي يحلف بالله أن ما في قلبه موافق لما يقول ويدّعي .وفي معنى الحلف أن يقول الإنسان:الله يعلم أو يشهد بأنني أحب كذا وأريد كذا .قال تعالى:{ قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون} ( يس:16 ) وهو تأكيد معروف في كلام العرب:
أليس الله يعلم أن قلبي *** يحبك أيها البرق اليماني
وقال العلماء إن هذا آكد من اليمين ، وعن بعض الفقهاء أن من قاله كاذبا يكون مرتدا لأنه نسب الجهل إلى الله تعالى .وأقول:إن أقل ما يدل عليه عدم المبالاة بالدين ولو لم يقصد صاحبه نسبة الجهل إلى الله عز وجل فهو قول لا يصدر إلا عن المنافقين الذين{ يخادعون الله والذين آمنوا} ( البقرة:9 ) فإن أحدهم ليبالغ في الخلابة والتودد إلى الناس بالقول{ وهو ألذ الخصام} أي وهو في نفسه أشد الناس مخاصمة وعداوة لمن يتودد إليهم ، أو هو أشد خصمائهم على أن الخصام جمع خصم ككعاب وهو المختار واللدد شدة الخصومة ولد ( كتعب ) الرجل لازم ولد خصمه ( كنصر ) شدد خصومته ولاده للمشاركة .وفيه وجه آخر قاله بعضهم وهو أن الخصام بمعنى الجدال أي وهو قوي العارضة في الجدال لا يعجزه أن يختلب الناس ويغشهم بما يظهر من الميل إليهم وإسعادهم في شؤونهم ومصالحهم .قال صاحب هذا القول فالأوصاف المحمودة التي يعتمد عليها ثلاثة:حسن القول بحيث يعجب السامع ، وإشهاد الله تعالى على صدقه وحسن قصده ، وفي معناه ما هو دونه من ضروب التأكيد الذي يقبله خالي الذهن ، وقوة العارضة في الجدال التي يحاج بها المنكر أو المعارض وأما بيان سوء حاله ، وفساد أعماله ، فهو في الآيتين التاليتين وقد مهد لهما بقوله تعالى:{ في الحياة الدنيا} والتمهيد في بداية الكلام للمراد منه في غايته من ضروب البلاغة وأفنانها .
هذا الفريق من الناس يوجد في كل أمة وتختلف الخلابة اللسانية في الأمم باختلاف الأعصار ، ففي بعض الأزمنة لا يتيسر له أن يغش الأمة في مجموعها حتى ينكل بها تنكيلا{[138]} وإن الجرائد في عصرنا هذا قد تكون طريقا للغش العام ، كما تكون طريقا للنصح العام ، وإنما يكون تلبيسها سهلا على من يعجب العامة قولهم في الأمم التي يغلب فيها الجهل لاسيما في طور الانتقال من حال إلى حال إذ تختلف ضروب الدعوة وطرق الإرشاد{[139]} .
وفي الآية وجه آخر ذهب إليه بعض المفسرين وهو أن الظرف [ في الحياة الدنيا] متعلق بالقول قبله ،أي يعجبك قوله إذا تكلم في شؤون الحياة الدنيا وأحوالها ، وطرق جمع المال وإحراز الجاه فيها ، لأن حبها قد ملك عليه أمره ، والميل إلى لذاتها وشهواتها قد استحوذ على قلبه ، وصار هو المصرف لشعوره ولبه ، فينطلق لسانهومثله قلمهفي كل ما يستهوي أصحاب الجاه والمال ، ويستميل أهل السيادة والسلطان ، ولكنه إذا تكلم في أمر الدين جاء بالخطل والحشو ، ووقع في العسلطة{[140]} واللغو ، فلا يحسن وقع قوله في السمع ، ولا يكون له تأثير في النفس وذلك أن روح المتكلم تتجلى في قوله ، وضميره المكنون يظهر في لحنه{ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم} ( محمد:30 ) وفي الحكم:كل كلام يبرز وعليه كسوة من القلب الذي عنه صدر ، ولذا كان إرشاد المخلصين نافعا ، وخداع المنافقين صادعا .
وعلى هذا الوجه في التفسير تكون جملة{ ويشهد الله} وصفا مستقلا غير حال مما قلبه ، أي أنه لا يحسن إلا الكلام في الدنيا ليعجب السامع ويخدعه ، ولكنه يزعم أن قلبه مع الله ، وأنه حسن السريرة ، وأنك لترى هذا في سيرة المجرمين ظاهرا جليا كما وصف الله تعالى:يتركون الصلاة ، ويمنعون الزكاة ، ويشربون الخمور ، ويتسابقون إلى الفجور ، ويأكلون أموال الناس بالباطل ، ثم يفضلون أنفسهم في الدين على أهل النزاهة والتقوى ، زاعمين أن هؤلاء المتقين قد عمرت ظواهرهم بالعمل والإرشاد ، ولكن بواطنهم خربة بسوء الاعتقاد ، ويقولون نعم إننا نحن نأكل الربا أو القمار ولكنا نحرمه ، ونأتي في نادينا وخلوتنا المنكر ولكنا لا نستحسنه ، وإن ما نبتزه من جيوب الأغنياء بخلابتنا ليس المقصود به ترفيه معيشتنا ، وإنما هو أجر على السعي في إعلاء شأنهم ، ومكافأة على خدمة أوطانهمفهم بهذه الدعاوى ألد الخصماء ، ألا إنهم هم السفهاء ، وإخلاص السريرة هما ينبوع الأعمال الصالحة ، والأقوال النافعة:{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} ( الأعراف:58 ) .