] وَمِنَ النّاس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّه[ الأمر الذي يجعله يشعر أنه لا يملك نفسه ولا يرى لها حريّة مطلقة بعيداً عن إرادة اللّه وطاعته .ولذلك فهو يعيش الإحساس العميق بأنَّ عليه أن يبذل كلّ طاقاته الفكرية والروحية والجسدية في سبيل اللّه ،فلا مجال للترف الفكري في الأجواء التي تتحرّك فيها التحدّيات الفكرية ضدّ الفكر الحقّ ،ولا موقع للخيال أمام حاجة الواقع إلى التعامل مع الظروف الموضوعية المطروحة في الساحة ،ولا وقت للفراغ في المجالات التي يشعر فيها الإنسان بالزمن يضيق عن المطامح الكبرى للقضايا الأساسية الحيّة في واقع الإنسان والحياة .وهكذا تنطلق حياته لتتحرّك من موقع الحقّ المتحرّك في أكثر من اتجاه ضدّ خطوات الباطل التي تطلق التحدّي في أكثر من مجال .
إنه نموذج الرساليين الذين يعيشون رسالتهم في كلّ مظهر لحركة الحياة من حولهم ،ويعيشون حياتهم من أجل رسالتهم في الخطّ المستقيم ؛فلا ينحرفون أمام كلّ محاولات الإغراء ولا يستسلمون لكلّ عوامل الضغط ؛بل يظلون في الموقع الصلب ،في ساحات التحدّي الصعب ،ليشهدوا اللّه على أنهم صدقوا العهد وأكدوا الميثاق بجهادهم وتضحياتهم في سبيله ،ولم تأخذهم فيه لومة لائم .
] وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ[ فهو الذي يتقبل منهم هذه النفوس المجاهدة التي تستقبل الموت بكلّ رضى واطمئنان ،انطلاقاً من خطّ الواجب الذي تلتقي فيه الرسالة بالشهادة والشهادة بالنصر ،ويجزل لها الثواب في مستقر رحمته ورضوانه ،وهو الذي يجازيهم الثواب الكثير بالعمل القليل .
وقد يمكن لنا استيحاء الصورة في مجالها المتجسد في صورة الإمام عليّ بن أبي طالب( ع ) في ما يذكره الرازي في تفسيرهفي ما نقله عنه صاحب تفسير الكاشفقال: جاء في سبب نزولها ثلاث روايات ،منها أنها «نزلت في عليّ بن أبي طالب ( ع ) بات على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة خروجه إلى الغار ،ويروى أنه لما نام على فراشه ،قام جبريل( ع ) عند رأسه ،وميكائيل عند رجليه ،وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يابن أبي طالب يباهي اللّه بك الملائكة » .
وقد جاء في التفاسير أنَّ النبيّ ( ص ) لما أراد الهجرة إلى المدينة ،خلف عليّ بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه وأداء الودائع التي كانت عنده ،وأمره ليلة خروجه إلى الغار ،وقد أحاط به المشركون بالدار ،أن ينام على فراشه ،وقال له: اتّشح ببردي الحضرمي الأخضر ونم على فراشي ،فإنه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء اللّه تعالى .ففعل ذلك عليّ ،ويروي الثعلبي في تفسيرهكما ينقلها البحرانيهذه الرِّواية ثُمَّ يقول «فأوحى اللّه تعالى إلى جبرائيل وميكائيل: إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه ،فأيكما يؤثر أخاه ؟فكلاكما آثر نفسه على صاحبه: ألا كنتما مثل وليّي عليّ بن أبي طالب ( ع ) ؛آخيت بينه وبين محمَّد نبيي ،فآثره بالحياة على نفسه ،ثُمَّ رقده على فراشه ،يقيه بمهجته .اهبطا إلى الأرض جميعاً واحفظاه من عدوه .
فهبط جبرائيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه ،وجعل جبرائيل يقول: بخٍ بخٍ ،من مثلك يابن أبي طالب ؟واللّه يباهي بك الملائكة ،فأنزل اللّه] وَمِنَ النّاس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ .. [ الآية .
ولم تركز الآية على شخصية عليّ ( ع ) ،بل أطلقت التعبير] وَمِنَ النّاس[ لأنَّ القضية هي أنَّ اللّه يريد للنموذجالفكرة أن ينطلق ليكون عاماً في حياة النّاس ،وذلك من خلال النموذج الأمثل في مقابل النموذج السيّىء الذي لا يفكر إلاَّ بذاته وشخصه .
إننا نجد في حياة الإمام عليّ ( ع ) حركة الصورة في الحياة في ما يمثّله هذا الإمام العظيم من طاقات رائعة في الفكر والتقوى والشجاعة والإبداع ،حيث فجرها بأجمعها في خدمة الإسلام والمسلمين ،بعيداً عن كلّ مصلحة ذاتية ،حتى قال: «ما ترك الحقّ لي صديقاً » ..ولم يبدد أيّ واحدة منها في الترف أو الفراغ أو خدمة الذات ...
ماذا نستوحي من هذين النموذجين ؟
أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات فهو عدّة أمور:
1أن نتعلّم كيف نمنح الآخرين الثقة والتأييد والدعم ،من خلال المواقف لا من خلال الكلمات والمظاهر ،لأنَّ الكلمات قد تخدع ،والمظاهر قد تغش ،ولكن المواقف التي تتحرّك من خلال التجربة المريرة الصعبة لا تنطلق إلاَّ من قاعدة الحقّ والإخلاص .ويبقى للآيات إيحاؤها العميق الذي يريد أن يعطي الفكرة من خلال عرض الصورتين المتقابلتين ،ليشعر الإنسان بأنَّ للحياة أكثر من وجه وأنَّ ظاهر الصورة قد لا يعبّر عن واقعها في كثير من الحالات .
2أن نلاحق هذين النموذجين في حركة الواقع ،من أجل أن نتابع الأول بالرفض والمواجهة من أجل إزاحته من واجهة الصورة في الحياة ،لتخليص النّاس من فساده وبغيه وطغيانه واستكباره ،أمّا النموذج الثاني فنحاول متابعته بالتأييد والدعم والرعاية من أجل تقويته وتثبيته وتشجيع الإنسان على أن يحتذيه ويقتدي به في كلّ مواقفه ومنطلقاته ،لإفساح المجال أمام القيم التي يحملها والمواقف التي يمثّلها أن تتحرّك على الساحة بالخير والإصلاح والمحبة والإنسانية الودية الذكية .
3أن نتمثّل في وعينا المبادىء السلبية من الإفساد في الأرض ،وإهلاك الحرث والنسل ،لنجعل منها أساساً للتعامل السلبي مع كلّ البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية ،لنجابهها في ما نملكه من مواقع المجابهة كما نتمثّل المبادىء الإيجابية التي تتلخص في أن يبيع الإنسان نفسه للّه ابتغاء مرضاته ،لنؤكد الخطّ الإيجابي في الحياة السائر على هذا النهج في عملية تقوية وتأييد وتنمية ،مهما كانت الصعوبات التي تتحدّانا ،والمشاكل التي تحتوينا ،فإنَّ ذلك هو الذي يحقّق لنا معنى الالتقاء برضى اللّه في ما يحبّه ،والابتعاد عن سخطه في ما يكرهه ؛حتى نفهم من معنى الحبّ وعدم الحبّ ،الجانب العملي الإيجابي والسلبي من خطّ العمل ،لا الجانب الوجداني الداخلي الذي لا يلتقي إلا بالعاطفة الذاتية الواقعة في خطّ الانفعال .