الدخول في السلم: المعاني والإيحاءات:
في هذه الآيات دعوة للمؤمنين بأن يدخلوا في الجو الإيماني الذي يحفظ لهم في الحياة الوحدة التي لا خلاف فيها ،فلا نزاع ولا خصام على أساس من تعاليم الإسلام وتوجيهاته ومفاهيمه وأحكامه .ولكن كيف نستفيد ذلك منها ؟!هذا ما نحاول أن نعرضه ونستوحيه بتفصيل .
] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّم كافّة[ فإنَّ الإيمان يفرض على صاحبه الالتزام بالخطّ الإلهي الذي رسمه اللّه في دينه ،في مناهجه وشرائعه .
وقد انطلقت الكلمات المفسّرة في تحديد معنى كلمة"السِّلْمِ "بين ثلاثة اتجاهات ،فقد فسّرها الكثيرون بالإسلام ،وفسّرها البعض بالصلح أو ترك المنازعة والخلاف ،وفسّرها آخرون بالطاعة التي تختزن معنى الاستسلام ،ويقصد بها استسلام الإنسان لربه بطاعته له وانقياده لأوامره ونواهيه ،بحيث يبتعد عن الاستغراق في ذاته ،باستغراقه بالخضوع لربّه ،وهذا ما يؤدي إلى السلام مع نفسه ومع ربه ومع النّاس ومع الطبيعة والحياة كلّها .
وبذلك اختلف مفهومهم لكلمة:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ[،لأنَّ التفسير الأوّل لكلمة السلم يخلق مشكلة بيانية ؛فإذا كانوا مؤمنين ،فكيف يطلب منهم أن يدخلوا في الإسلام ؟!فحاول بعضهم أن يفسّر] الَّذِينَ ءَامَنُواْ[،بمن آمن قولاً لا عقيدةً وهم المنافقون ،وبذلك تكون الدعوة في الآية إلى الالتزام العملي بالإسلام والإيمان به .
وذكر الطبرسي في تفسيره أنَّ المراد به: دوموا في ما دخلتم فيه كقوله:] يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ [ [ النساء:136] .
وحاول البعض أن يفسّره بأهل الكتاب ،فتكون دعوة إلى دخولهم في الإسلام .ولكنَّنا لا نجد في جوّ الآية ما يوحي بأي من المعنيين ،بل ربما نلاحظ في استعراضنا للآيات التي استعملت فيها كلمة السلم ،أنَّ الأقرب إلى الجوّ هو المعنى الثاني .كما نلاحظ على التفسيرين لكلمة] الَّذِينَ ءَامَنُواْ[،أنَّ الظاهر من الآية الكريمة:] قَالَتِ الاَْعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الاِْيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ[ [ الحجرات:14] هو إرادة الإيمان الذي يطابق فيه القول الفعل ،فكيف نحمل الكلمة على خلاف ذلك ؟أمّا حملها على أهل الكتاب ،فيتنافى مع المصطلح القرآني الذي جعل كلمة] الَّذِينَ ءَامَنُواْ[ مقابلة لأهل الكتاب والمشركين ،كما توحي به الآية الكريمة:] إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَرَى[ [ الحج:17] وفي ضوء ذلك ،لا نجد هناك وجهاً يبرر إرادة معنى الإسلام من كلمة] السِّلْمِ[،ما يعني عودة المشكلة البيانية من جديد ،كما أنَّ حمل كلمة الدخول على الدوام في ما دخلتم فيه خلاف الظاهر من دون قرينة .
وفي هذا الجوّ ،يمكننا أن نؤكد ثانياً إرادة المعنى الثاني ،لأنَّ ذلك ما نفهمه من كلمة"السِّلْمِ "التي تعني الوفاق الاجتماعي الذي يبتعد عن جوّ الصراع والخلاف والقتال ،فكأنَّ الآية تدعو إلى الدخول في أجواء السلم التي تلتقي بالوقوف على الخطّ الواحد الذي تجتمع عليه الأمّة بعيداً عمّا يفرّقها ويوزّعها أشتاتاً متنازعة مختلفة ،تماماً كما هو جوّ الآية الكريمة:] وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ[ [ آل عمران:103] .
ثُمَّ نلاحظ التركيز في أكثر من آية من آيات القرآن على التحدّث عن الأمم السابقة التي جاءها العلم ،ولكنَّها اختلفت فيما بينها فضلّت وأضلّت ،كما في قوله تعالى:] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ[ [ الأنعام:159] وقوله تعالى:] وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [ آل عمران:105] وغيرهما من الآيات التي توحي بالخطّ القرآني الذي يؤكد على عدم الخلاف بين أبناء الأمّة الواحدة في قضايا دينها وحياتها ،ويعمل على أن يجعل من بني إسرائيل النموذج الحي الذي دمّرته الفرقة الخاضعة لأهواء التيارات الذاتية والفئوية المدمّرة ؛وذلك من أجل الحفاظ على سلامة المجتمع الذي يبني له السلم حياته في سائر جوانبها العامة والخاصة ،وهذا ما يدفعنا إلى استيحاء هذا المعنى من الكلمة في نطاق الجوّ القرآني العام .فإذا أضفنا إلى ذلك انسجامه مع استعمال كلمة السلم في الآيات القرآنية في هذا المعنى ،أمكننا أن نقترب من الاطمئنان للفكرة ،وذلك كما في قوله تعالى:] وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه[ [ الأنفال:61] وقوله تعالى:] فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ[ [ محمَّد:35] .ومن خلال ذلك نستوحي انطلاق الآية في هذا الاتجاه الذي هو الشرط الأساسي لسلامة استمرار الخطّ الإسلامي في الحياة .فعلى المؤمنين أن يعيشوا في أجواء السلم في علاقاتهم ببعضهم البعض ،في المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية ،فلا يفسحوا المجال للخصومة والنزاع أن يحكما حياتهم ،لا سيما الخلافات المذهبية في داخل الدِّين الواحد ،فإنها تفرّق النّاس ،وتجعل من كلّ فئة من الفئات قوّةً تخاصم الفئة الأخرى ؛فيؤدي ذلك إلى ضعف الدِّين ،لأنَّ كلّ طاقة دينية تضرب طاقة دينية أخرى ،تساهم في النتيجة في إهدار الطاقات الدينية لمصلحة القضايا الشخصية .
ولعلّ من الطبيعي أن يكون الاتجاه إلى السلم مرتبطاً بالانسجام مع المفاهيم الإسلامية التي تحكم حياة النّاس ،وذلك من خلال الأساس الفكري الذي يجمعها ويوحّد خطاها ويشعرها بأنها تلتقي عنده .وفي هذا النطاق ،يمكننا أن نستوحي من الدخول في السلم الالتقاء على خطّ الإسلام الواحد ،لا كمفهوم من الكلمة ،بل كنتيجة للمفهوم المرتكز على الوفاق ؛فإنَّ السلم الذي يقوم على المجاملة والعاطفة ،وينطلق من إخفاء العقد الذاتية ،ومن الهروب بعيداً عن المشكلة ،لا يمكن أن يثبت أمام التجربة ،ويصمد أمام الرياح والعواصف .
وهكذا يفهم الإسلام قصة السلم في الواقع ،وذلك في نطاق الوحدة الفكرية والشعورية التي تتحرّك نحو الوحدة العملية الواقعية .وربَّما كان ابتداء الآية بقوله تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ[،إيحاءً بذلك ،لأنَّ الإيمان يوحي للمؤمنين بوحدة المنطلق والطريق والهدف ؛الأمر الذي يربط الوحدة بالجذور العميقة للانتماء ،ويبعدها عن الارتماء في أحضان الكلمات السطحية الغارقة بالضباب ،فيفجر كلّ الأشياء في الداخل ،لتتحوّل إلى الهواء الطلق والنور الباهر .
والمراد بكلمة"كَآفَّةً "جميعاً ،بمعنى أن لا يبتعد أي واحدٍ منهم عن الدخول في هذا العنوان الكبير .وهناك احتمال بأنَّ المقصود به ادخلوا في السلم كلّه ،أي في جميع شرائع الإسلام ،ولا تتركوا بعضه .ويؤيّد هذا القول ما روي أنَّ قوماً من اليهود أسلموا وسألوا النبيّ أن يبقي عليهم تحريم السبت وتحريم لحم الإبل ،فأمرهم أن يلتزموا جميع أحكام الإسلامكما جاء في مجمع البيان.ولكن هذا خلاف الظاهر ،كما ذكرناه من استبعاد إرادة الإسلام من كلمة"السِّلْمِ "أولاً ،وثانياً لأنَّ كلمة"كَآفَّةً "لا تستعمل ،غالباً ،إلاَّ في موقع الكلمة الدالة على الجمع لفظاً ومعنىً ،مع أنَّ كلمة"السِّلْمِ "ظاهرة في المفرد ،وتقدير كلمة الأحكام خلاف الظاهر .
خطوات الشيطان تصادر خطوات السَّلام:
] وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ[ فإنه يبعد المؤمن عن خطّ إيمانه بالاستغراق في أجواء اللهو والغفلة ،فيتجمد إيمانه في داخل ذاته بعيداً عن حركة الحياة من حوله ،ليجعل كلّ الخطوات متحرّكة في طريقه السائر نحو الضلال والكفر والانحراف ...وذلك بما يثيره في النفس من وساوس الشر ،ونوازع الشك ،وعوامل الانحراف ؛فيفقده وعي الإيمان ،فيرى الحقّ باطلاً والباطل حقّاً ،وتضطرب مقاييسه عندما يختلف لديه ميزان الرؤية للأشياء .ولعلّ من بين هذه النتائج السلبية لذلك ،هو ما نواجهه من حرب المؤمن للمؤمن باسم الإيمان ،بتسويل الشيطان له بأنه يحارب الانحراف لدى المؤمن ،ولكنَّه لو دقّق النظر ،لاكتشف أنه يعاديه على أساس مزاجه الشخصي وهواه الذاتي .
وربما كان من مظاهر ذلك ما نواجهه من إثارة الخلافات المذهبية والطائفية بين المسلمين ،بالمستوى الذي يؤدي إلى التخاصم والتنازع في المجالات العامة ،بحجّة الدفاع عن الحقّ ،في ما يوحيه الشيطان للمعتدي ،بينما تكون الساحة مثاراً لخطط كافرة جهنمية تتحرّك من مواقع الاستعمار تارة ،وقواعد الكفر أخرى ،ما يجعل من إثارة هذا الجوّ أساساً لتنفيذ كلّ مخططاته القريبة والبعيدة من دون شعور وانتباه ؛تماماً ككثير من كلمات الحقّ التي يقصد بها الباطل أو تتحرّك في خدمته .
وفي ضوء ذلك ،كان التأكيد الدائم من اللّه في آياته على مراعاة الدقة في التعامل مع الشيطان في كلّ خطواته ،لأنه يسلك أخفى الطرق وأدق الوسائل في النفاذ إلى وعي الإنسان وفكره ،بحيث يتركه ضائعاً بين طريق الحقّ والباطل لتشابه المعالم والملامح بين الطريقين .وهذا ما نجده في بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى:] وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [ [ الإسراء:53] .فقد كان التأكيد على القول الأحسن منطلقاً من استغلال الشيطان لكلّ الثغرات الموجودة في جوّ الكلمة غير المدروسة ومدلولها وحروفها ،مما يمكن أن يثير بعض المشاعر والأحاسيس الذاتية المعقدة التي يمكن أن يتفاداها الإنسان بلباقة ،باستعمال كلمة أخرى تؤدي الفكرة نفسها بعيداً عن كثير من السلبيات بأسلوب أفضل وجوٍّ أحسن .
] إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ[ فهو لا يريد لكم الخير في وساوسه وتسويلاته وتزيينه ،بل يريد لكم الشر من خلال استغلال نقاط الضعف الكامنة في شخصياتكم ،ليستثير غرائزها في اتجاه الانحراف ،وأحلامها في الخطوط البعيدة عن الواقع ،سواء كان ذلك من الناحية الفكرية ،أو من الناحية العملية ،فيصوّر لكم الباطل بصورة الحقّ لتتبعوه ،ويصوّر الحقّ بصورة الباطل لتتركوه ،لأنه يحسن تجميل الصورة القبيحة ببعض وسائله ،كما يتقن تقبيح الصورة الجميلة ببعض ألاعيبه .وهذا هو العنوان القرآني العام في كلّ حديث له عن الشيطان ،كما في هذه الآية .
وربما كان التعبير ب] خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ[ يختزن في مضمونه الإيحاءولو من بعيدبالتدريجية في طريقة الشيطان في أساليبه الخداعة المغرية ،بحيث يتحرّك مع الإنسان خطوة خطوة ،ليؤدي به إلى الهلاك في نهاية المطاف ،إذ إنَّ الإنسان إذا استغرق في الاندفاع في الطريق بالخطوة الأولى ،فإنها تجتذب الخطوة الثانية والثالثة إلى نهاية الطريق ،ما يفرض على الإنسان أن يعي الخطّة الشيطانية منذ البداية عندما يبدأ حركته في الطريق ،فإنَّ الوعي في نقطة الانطلاق هو الذي يحمي الإنسان من نقطة النهاية ،لأنَّ الوعي في الحركة الأولى يجتذب وعي الحركة في آخر الطريق .
وفي آية أخرى:] إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ[ [ فاطر:6] .فقد نجد في هذا التركيز على العداوة إشارة إلى طبيعة الحاجز النفسي الذي يجب أن يعيشه الإنسان في كيانه ضدّ كلّ إيحاءات الشيطان ،ليثير من خلاله الريبة والشك وعدم الثقة ،من موقع العداوة المتأصلة ،ليفكر طويلاً قبل أن يستسلم لأية كلمة أو فكرة أو حركة مهما كانت ظاهرة الصدق والبساطة والإيمان ،ليكتشف طبيعة الزيف أو الإخلاص في داخلها تبعاً لوعي الفكر وذكاء الشعور ،ليرفض أو يؤيد من موقع المعاناة والتأمل العميقين .
وجاءت هذه الفقرة في هذه الآية] وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ[ لتوجه الإنسان إلى دراسة الطريق جيداً في كلّ خطواته ،لا سيما إذا كان الجوّ جوّ الدعوة إلى السَّلام ؛فإنَّ الشّيطان يعرف كيف يسخّر الخطوات الساذجة لتسير في الاتجاه الذي يريده ،من أجل تخريب خطوات السَّلام وإضاعتها في مهب الرياح الذاتية والحزبية والعصبية ،وغير ذلك من الأمور التي تفرّق النّاس وتشتتهم شيعاً وأحزاباً بمختلف الأسماء والألوان والأشكال ،كما ألمحنا إليه في بداية الحديث ،الأمر الذي يدفعنا إلى أن نحدّد الخطّ الفاصل بين أهداف الشيطان وأهداف الرحمن ،لنكتشف طبيعة الخطوات من خلال اكتشاف طبيعة الأهدافوقد تحدّثنا بعض الحديث عن هذه الفقرة في ما تقدّم من أحاديث هذا التفسير في آية سابقة .