الآيتان
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( 208 ) فَإِن زَلَلْتُم مِن بَعْدِ مَاجَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 209 )
التّفسير
السّلام العالمي في ظلّ الإسلام:
بعد الإشارة إلى الطائفتين ( المؤمنين المخلصين والمنافقين المفسدين ) في الآيات السابقة تدعو هذه الآيات الكريمة كلّ المؤمنين إلى السِّلم والصلح وتقول: ( يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّة ) .
( سلم ) و ( سلام ) في اللّغة بمعنى الصّلح والهدوء والسكينة ،وذهب البعض إلى تفسيرها بمعنى الطّاعة ،فتدعوا هذه الآية الكريمة جميع المؤمنين إلى الصلح والسّلام والتسليم إلى أوامر الله تعالى ،ويُستفاد من مفهوم هذه الآية أنّ السّلام لا يتحقّق إلاّ في ظلّ الإيمان ،وأنّ المعايير والمفاهيم الأرضيّة والماديّة غير قادرة على إطفاء نار الحروب في الدنيا ،لأنّ عالم المادّة والتعلّق به مصدر جميع الاضطرابات والنّزاعات دائماً ،فلولا القوّة المعنويّة للإيمان لكان الصّلح مستحيلاً ،بل يُمكن القول أنّ دعوة الآية العامّة لجميع المؤمنين بدون استثناء من حيث اللّغة والعنصر والثروة والإقليم والطبقة الاجتماعية إلى الصّلح والسّلام يُستفاد منها أنّ تشكيل الحكومة العالميّة الواحدة في ظل الإيمان بالله تعالى والعيش في مجتمع يسوده الصّلح ممكن في إطار الدولة العالميّة .
واضحٌ أنّ الأطر الماديّة الأرضيّة ( من اللّغة والعنصر و ...) هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة اتصال محكمة تربط بين قلوب النّاس ،وهذه الحلقة ليست سوى الإيمان بالله تعالى الّذي يتجاوز كلّ الاختلافات ،الإيمان بالله واتّباع أمره هو النقطة والمحور لوحدة المجتمع الإنساني ورمز ارتباط الأقوام والشّعوب ،ويمكن رؤية ذلك من خلال مناسك الحجّ الّذي يُعتبر نموذجاً بارزاً إلى اتّحاد الأقوام البشريّة بمختلف ألوانها وقوميّتها ولغاتها وأقاليمها الجغرافيّة وأمثال ذلك حيث يشتركون في المراسم العبادية الروحانيّة في منتهى الصّلح والصّفاء ،وبمقايسة سريعة بين هذه المفاهيم والأنظمة الحاكمة على الدول الفاقدة للإيمان بالله تعالى وكيف أنّ الناس يفتقدون فيها إلى الأمان النفسي والمالي ويخافون على أعراضهم ونواميسهم يتّضح لنا التفاوت بين المجتمعات المؤمنة وغير المؤمنة من حيث الصّلح والأمان والسّلام والطمأنينة .
ويُحتمل أيضاً في تفسير الآية أنّ بعض أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) عندما يعتنقون الإسلام يبقون أوفياء لبعض عقائدهم وتقاليدهم السابقة ،ولهذا تأمر الآية الشريفة أن يعتنقوا الإسلام بكافّة وجودهم ويخضعوا ويسلّموا لجميع أحكامه وتشريعاته{[309]} .ثمّ تضيف الآية ( ولا تتّبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌّ مبين ) وقد مرّ بنا في تفسير الآية ( 168 ) من هذه السورة الإشارة إلى أنّ كثير من الإنحرافات ووساوس الشيطان تحدث بصورة تدريجيّة على شكل مراحل حيث يسمّيها القرآن ( خطوات الشيطان ) .
( خطوات ) جمع «خطوة » وهنا تكرّرت هذه الحقيقة من أنّ الانحراف عن الصلح والعدالة ،والتسليم لإرادة الأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادّة وخطرة كما في المثل العربي المعروف ( إنّ بدو القتال اللّطام ) .
فتارةً تصدر من الإنسان حركة بسيطة عن عداء وحقد وتؤدّي إلى الحرب والدّمار ،ولهذا تخاطب الآية المؤمنين أن يلتفتوا إلى نقطة البداية كي لا تؤدّي شرارات الشرّ الأولى لاشتعال لظى المعارك والحروب .
وجدير بالذّكر أنّ هذا التعبير ورد في القرآن الكريم خمس مرّات وفي غايات مختلفة .
وذكر بعض المفسّرين أنّ ( عبد الله بن سلام ) وأتباعه الذين كانوا من اليهود وأسلموا طلبوا الإذن من رسول الله بقراءة التوراة في الصلاة والعمل ببعض أحكامها ،فنزلت الآية الآنفة الذكر ونهت هؤلاء عن إتّباع خطوات الشيطان{[310]} .
ومن شأن النزول هذا يتبيّن أنّ الشيطان ينفذ في فكر الإنسان وقلبه خطوة خطوة ،فيجب التصدّي للخطوات الأولى لكيلا تصل إلى مراحل خطرة .
وتتضمّن جملة ( إنّه لكم عدوٌّ مبين ) برهاناً ودليلاً حيّاً حيث تقول أنّ عداء الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر ،فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل جهده لإغواء جميع البشر إلاّ المخلصين الّذين لا ينالهم مكر الشيطان ،فمع هذا الحال كيف يمكن تغافل وسوسة الشيطان .