{ يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين 208 فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم 209 هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور 210}
بعد ما بين عز وجل اختلاف الناس في الصلاح والفساد والإصلاح والإفساد أراد أن يهدينا إلى ما يجمع البشر كافة على الصلاح والسلام ، والوفاق الذي قرره الإسلام ، وهو ما يقتضيه الإيمان بالله واليوم الآخر ، وجعل هذه الهداية بصيغة الأمر وشرف أهل الإيمان به فقال:{ يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} الخ السلم المسالمة والانقياد والتسليم ، فيطلق على الصلح والسلام ، وعلى دين الإسلام .قرأ ابن كثير ونافع والكسائي السلم بفتح السين والباقون بكسرها وهما لغتان .وقد فسره بعض المفسرين بالصلح وبعضهم بالإسلام وعليه الجلال ، وقال في تفسير{ كافة} حال من السلم أي في جميع شرائعه .
وأقول إن أساسها الاستسلام لأمر الله والإخلاص له ، ومن أصولها الوفاق والمسالمة بين الناس وترك الحروب والقتال بين المهتدين به .واللفظ يشمل جميع معانيه التي يقتضيها المقام ، والأمر بالدخول فيه يشعر بأنه حصن منيع للداخلين في كنفه ، وهو للكاملين منهم أمر بالثبات والدوام كقوله تعالى:{ يأيها النبي اتق الله} ( الأحزاب:1 ) ولمن دونهم أمر بالتمكن منه وتحري الكمال فيه ، وعلى القول بأن الخطاب فيه لأهل الكتاب أو كل من يؤمن بالله فالدخول على حقيقته .يقول لهم إذا لم تدخلوا في دين الإسلام الذي أكمله لخلقه كافة ببعثة خاتم النبيين ، فلا ينفعهم إيمانكم به مع بقائكم على تعاديكم وتفرقكم ودين الله جامع لا تفرق فيه .وهاك ما كتبته بعد حضور درس تفسير شيخنا للآية .
هذه كلمة عظيمة ، وقاعدة لو بنى جميع علماء الدين مذاهبهم عليها لما تفاقم أمر الخلافة في الأمة ، ذلك أنها تفيد وجوب أخذ الإسلام بجملته ، بأن ننظر في جميع ما جاء به الشارع في كل مسألة من نص قولي وسنة متبعة ونفهم المراد من ذلك كله ونعمل به ، لا أن يأخذ كل واحد بكلمة أو سنة ويجعلها حجة على الآخر ، وإن أدت إلى ترك ما يخالفها من النصوص والسنن ، وحملها على النسخ أو المسخ بالتأويل ، أو تحكيم الاحتمال بلا حجة ولا دليل ، ولو أنك دعوت العلماء إلى العمل بالآية على هذا الوجهالذي عرفوه ولم ينكره على قائليه أحد منهم ، وإن رجح بعضهم في تفسير غيره عليهلولوا منك فرارا ، وأعرضوا عنك استكبارا ، وقالوا مكر مكرا كبارا ، إذ دعا إلى ترك المذاهب ، وحاول إقامة المسلمين على منهج واحد .
ومن آيات العبرة في هذا المقام أننا نجد في كلام كثير من علمائنا هدى ونورا لو اتبعته الأمة في أزمنتهم لاستقامت على الطريقة ، ووصلت إلى الحقيقة ، بعد الخروج من مضيق الخلاف والشقاق ، إلى بحبوحة الوحدة والاتفاق ، والسبب في بقاء الغلب لسلطان الخلاف والنزاع ، فشى الجهل وتعصب أهل الجاه من العلماء لمذاهبهم التي إليها ينتسبون ، وبجاهها يعيشون ويكرمون ، وتأييد الأمراء والسلاطين لهم استعانة بهم على إخضاع العامة ، وقطع طريق الاستقلال العقلي والنفسي على الأمة ، لأن هذا أعون لهم على الاستبداد ، وأشد تمكنا لهم مما يهوون من الفساد والإفساد ، إذ اتفاق كلمة علماء الأمة واجتماعها على أن الحق كذا بدليل كذا ، ملزم للحاكم اتباعهم فيه ، لأن الخواص إذا اتحدوا تبعهم العوام ، وهذه هي الوسيلة الفردة لإبطال استبداد الحكام ، وهذا التفسير مؤيد بالنعي على الذين جعلوا القرآن عضين ، والإنكار على الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، أي يعملون ببعضه على أنه دين ويتركون بعضا بتأويل أو غير تأويل ، كشأن من لم يصدق بأنه من الله ، فوجوب أخذ القرآن والدين بجملته ، وفهم هدايته من مجموع ما ثبت عمن جاء به ، أمر مقرر في ذاته سواء فسرت به الآية أم لا .لأن الآيتين اللتين أشرنا إليهما آنفا في جعل القرآن عضين ، وفي الإيمان ببعضه والكفر ببعض وما في معناهما من النصوص تثبته .
وذهب بعض المفسرين إلى أن ( كافة ) ترجع إلى الذين آمنوا ، أي:ادخلوا في الإسلام جميعا لا يتخلف منكم أحد ، وصاحب هذا القول يصرف نداء{ الذين آمنوا} إلى أهل الكتاب أي آمنوا بالأنبياء السابقين والوحي ، حتى لا يرد عليه أن الإيمان يستلزم الدخول في الإسلام فيكون أمر المؤمن بالإسلام من تحصيل الحاصل ، ووجه اللزوم أن الإيمان هو التصديق الجازم مع إذعان النفس ، فمن صدق بالشيء وأذعن له فقد دخل في أعماله وانقاد لأحكامه لا محالة .
وأما قول الجماهير إن العلم لا يوجب العمل فهو على إطلاقه خطأ ، فالعلم التصديقي الإذعان المتعلق بالمنافع والمضار يوجب العمل به ما لم يعارضه في موضوعه علم أقوى منه ، وأما العلم التصوري والعلم النظري المعارض بعلم ضروري أو نظري أقوى منه فلا يوجبان العمل ، وقد صرح حجة الإسلام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة الشاطبي صاحب الموافقات بأن العمل الصحيح يستلزم العمل ، والحق التفصيل الذي أشرنا إليه آنفا ، وآيات الكتاب العزيز دالة عليه ومعززة له ، ويدل لمن قال إن الآية نزلت في أهل الكتاب ما رواه ابن جرير عن عكرمة قال:قال عبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابنا كعب وسعيد بن عمر وقيس بن زيد كلهم من يهود:يا رسول الله يوم السبت نعظمه فدعنا فلنسبت فيه ، وأن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها الدليل .فنزلتفالخطاب على هذا لليهود خاصة ، لا لأهل الكتاب عامة ، ولكن الرواية غير صحيحة وهي تنم على نفسها فهي موضوعة للآية ، وهناك رواية أخرى بمعناها .
والوجه الثاني في تفسير السلم وهو المسالمة والوفاق يتوقف على الوجه الأولأخذ الدين بجملتهلأنه أمر برفع الشقاق والتنازع وبالاعتصام بحبل الوحدة ، وشد أواخي الإخاء ، ولا يرفع الشيء إلا برفع أسبابه ، ولا يستقر إلا بتحقيق وسائله ، وهو بمعنى قوله عز وجل:{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} ( آل عمران:103 ) الآية .قوله تعالى:{ ولا تنازعوا فتفشلوا} ( الأنفال:46 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض ){[146]} رواه الجماعة كلهم .وقد خالفنا كل هذه النصوص فتفرقنا وتنازعنا وشاق بعضنا على بعض بشبهة الدين ، إذ اتخذنا مذاهب متفرقة كل فريق يتعصب لمذهبه ويعادي سائر إخوانه المسلمين لأجله ، زاعما أنه ينصر الدين ، وهو يخذله بتفريق كلمة المسلمين ، هذا سني يقاتل شيعيا ، وهذا شيعي ينازل إباضيا ، وهذا شافعي يغري التتار بالحنفية ، وهذا حنفي يقيس الشافعية على الذمية ، وهؤلاء مقلد الخلف ، يحادون من اتبع طريقة السلف .{ أفلم يدبروا القول أن جاءهم ما لم يأت آبائهم الأولين} ( المؤمنون:68 ) أم أمروا بهذا من الله ورسوله ومن الأئمة المجتهدين ؟ كلا بل كان التعادي والتنازع انحرافا عن الصراط المستقيم ، واتباع لخطوات الشيطان الرجيم ، فكما خالف المفرقون المتنازعون ربهم في ذلك الأمر ، خالفوا ما أتبعه به من هذا النهي ، إذ قال:{ ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} الخطوات جمع خطوة بالضم وبالفتح ، وهما ما بين قدمي من يخطو بنقلهما في المشي ، أي لا تسيروا سيره وتتبعوا سبله في التفرق في الدين أو الخلاف والتنازع مطلقا .وسبل الشيطان وخطواته هي كل أمر يخالف سبيل الحق والخير والمصلحة ، وهي ما عبر عنه بالسبيل في قوله تعالى:{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} ( الأنعام 153 ) فذَكَرَ تعالى أن له سبيلا واحدة سماها صراطا مستقيما لأنها أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام ، وأن هناك سبلا متعددة يتفرق متبعوها عن ذلك الصراط وهي طرق الشيطان ، وقد علم من جعل التفرق تابعا لاتباع سبل هي غير صراط الله أن الذين يتبعون سبيل الله لا يتفرقون:{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} ( الأنعام:159 ) نعم قد يطرأ عليهم سبب الخلاف والتنازع ولكنهم متى شعروا بأن التنازع قد دب إليهم في أمر فزعوا إلى تحكيم الله ورسوله فيه برده إلى حكمهما ، كما أمرهم بقوله:{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ( النساء:59 ) أي مآلا وعاقبة فالآيات يفسر بعضها بعضا إذا نحن أخذنا القرآن بجملته كما أمرنا .
وقال الأستاذ الإمام:هذه الآيات حجة لعلماء الأصول القائلين بأن الحق واحد لا يتعدد .ويا ليت أصحاب هذا الأصل فرضوا على أنفسهم الاجتماع لكل خلاف يعرض لهم والبحث عن وجه الحق فيه بلا تعصب ولا مراء ، حتى إذا ما ظهر لهم أجمعوا عليه ، وإذ هو لم يظهر لبعضهم ثابر من لم يظهر له على تطلابه بإخلاص لا يعادي فيه أحدا ، ولا يجعله ذريعة لتفريق الكلمة .
طريق الحق هو الوحدة والإسلام ، وطرق الشيطان هي مثارات التفرق والخصام ، وهي معروفة في كل الأمم ، ولكن الشيطان يزين طرقه ويسول للناس المنافع والمصالح في التفرق والخلاف ، فقد كانت يهود أمة واحدة مجتمعة على كتاب واحد هو صراط الله فسول لهم الشيطان فتفرقوا وجعلوا لهم مذاهب وطرقا ، وأضافوا إلى الكتاب ما أضافوا ، وحرفوا من كلمه ما حرفوا ، واتبعوا السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله ، حتى حل بهم الهلاك والدمار ، ومزقوا كل ممزق .وكذلك فعل غيرهم ، كأنهم رأوا دينهم ناقصا فكملوه ، وقليلا فكثروه ، وواحدا فعددوه ، وسهلا فصعبوه ، فثقل عليهم بذلك فوضعوه ، فذهب الله بوحدتهم ، حتى لم تغن عنهم كثرتهم ، وسلط عليهم الأعداء ، وأنزل بهم البلاء:{ سنة الله التي قد خلت في عباده} ( غافر:85 ){[147]} .
هذا هو المتبادر من خطوات الشيطان في هذا المقام .ومن خطواته طرق الفواحش والمنكرات كلها ولذلك قال تعالى:{ ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفواحش والمنكر} ( النور:21 ) وأما كون الشيطان عدوا مبينا فذاك أن جميع ما يدعو إليه ظاهر البطلان بين الضرر لمن تأمل وعقل ، فمن لم يدرك ذلك في مبدأ الخطوات أدركه في غايتها ، عند ما يذوق مرارة مغبتها ، لاسيما بعد تذكير الله تعالى وهدايته عباده إلى ذلك ، فلا عذر لمن بلغته هذه الهداية إذا بقي على ضلالته واستحب العمى على الهدى ولذلك قال عز شأنه{ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} .